جاء صوتها صلباً متماسكاً، بعد إلحاح فى الاتصال فيما يستمر انقطاع الأخبار والإنترنت والاتصالات لفترات طويلة، قالت بجلد وثبات: «ساقى بترت»! للوهلة الأولى ظننت أننى لا أسمعها جيداً، كنت أحاول الاطمئنان عليها وعلى عائلتها بعد مجزرة مواصى خان يونس البشعة التى سقط فيها عشرات الشهداء ومئات الجرحى قبل يومين، انقبض قلبى وانفعلت عليها وعلا صوتى طالبة منها ألا تتلاعب بأعصابى فالوضع لا يحتمل مزاحاً من هذا النوع، وألححت عليها لتخبرنى بما حدث، قالت وهى تضحك أنا لا أكذب صدقينى! قلت لها مستنكرة غير مصدقة أنت تحاولين إخافتى فلا يمكن أن يحدث ذلك وصوتك يأتينى بهذا الثبات والقوة، مغموساً بنبرة رضا عجيبة، ردت بتأكيد افتحى الكاميرا لترى بنفسك؟ حينها استشعرت غصة فى قلبى وخفقان شديد مصحوب بالخوف والمرارة، ارتعدت أوصالى وتمنيت من الله ألا يكون ما تقوله حقيقة، حاولت فتح الكاميرا بيد مرتجفة لكنى لم أفلح، قطعت الاتصال وعاودت الكَرّة من جديد وضغطت على خاصية الاتصال بالفيديو وكانت المفاجأة المفزعة، وجدتها مستلقية على سرير المرض وساقها اليمنى ملفوفة بالضمادات عند الركبة، والساق الأخرى مليئة بالكدمات الزرقاء والحمراء، وهى تبتسم برضا، بل أخذت تمازحنى وتهوّن علىّ! بدلاً من أن أهوّن عليها وأدعهما! انهرت تماماً.. ولم أعد أقوى على الحديث، أو أعرف ماذا أقول؟! ولسان حالى يهذى بالأسئلة المكررة الساذجة.. كيف ولماذا؟ لكنها الأسئلة العبثية التى لا إجابة لها، ولا منطق ولا جدوى.
صديقتى ورفيقة دربى فجأة ودون سابق إنذار أصبحت معاقة، نزحت فى بداية الحرب من بيتها فى جباليا إلى رفح، ثم نزحت من رفح عند اجتياحها إلى منطقة المواصى فى خان يونس، التى قال عنها جيش الاحتلال إنها أماكن آمنة، فى ظل ظروف شديدة القسوة، وتفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية والاجتماعية، والرعاية الطبية، لكن القدر قال كلمته، أصيبت بشظية فى الساق نتيجة القصف والحزام النارى الذى نفذه جيش الاحتلال فى المنطقة، أدت إلى بترها. فكيف ستعيش مع هذه الإعاقة الموجعة؟ وتتكيف مع حياتها الجديدة علماً بأن الإمكانات محدودة جداً وتكاد تكون معدومة، فى ظل الحصار الخانق الذى يفرضه جيش الاحتلال على قطاع غزة ويمنع دخول المساعدات. كما لا يوجد متابعة طبية ولا رعاية صحية ملائمة لحالتها، لا أطراف صناعية، ولا مراكز لإعادة التأهيل الجسدى والنفسى، لكننى لمست فى صوتها الثبات، وما هو أهم، الإحساس الذى يغمرهم بالطمأنينة، إنه الإيمان والرضا بالقضاء والقدر، فهى ليست استثناء عما يعانى منه جموع الفلسطينيين فى قطاع غزة -كما قالت لى- فى محاولة لطمأنتى، والقبول بما كتب الله لها، كى أرتاح وأستكين؟!. سألتها بجزع أين تتلقين العلاج؟ قالت فى مركز للصليب الأحمر بإمكاناته المتواضعة التى بالكاد تلبى احتياجات الجرحى لإبقائهم على قيد الحياة، كانت هى من تصبرنى وتشد من أزرى! يا الله ما هذا الصبر؟! أعاد أيوب متخفياً؟! ليضرب له الفلسطينيون مثلاً جديداً فى الصبر والصمود والتحامل على الفواجع الكثيرة والمستمرة بلا نهاية ولا أفق، هذا الصبر والجلد والثبات هى جند من جنود الله الذين يحيطون بأهل غزة، ليخففوا عنهم آلامهم، وما يتعرضون له من أهوال يومية. إن أكثر ما أدهشنى وأثار استغرابى وحزنى معاً، ما قالته لى صديقتى مازحة: بأن ما يشغلها الآن هو كيف ستشترى فردة حذاء واحدة لأنها لن تحتاج للاثنتين؟! ورغم أن الظرف لا يحتمل أى فكاهة لكنها أرادت طمأنتى حتى لا أجزع.
مجزرة المواصى لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة فى السجل الإجرامى للاحتلال الإسرائيلى، فمنذ الصغر يتربون على ثقافة الكراهية، وشهوة القتل، ومتعة التنكيل، ولذة التعذيب، تلك المفردات التى غرست فى عقيدة هذا الجيش الأكثر «لا أخلاقية» على الإطلاق. ورغم تفوقه العسكرى وترتيبه الذى يأتى فى الصفوف الأولى للجيوش الأقوى تدريباً والأحدث تسليحاً فى العالم، إلا أنه لم يستطع التغلب على عزيمة الفلسطينيين فى غزة، «شعب الجبارين»، الذين اصطفاهم الله وربط على قلوبهم، وجعلهم المثل والقدوة فى الصمود والتحدى والتضحية والبطولة، رغم حرب الإبادة التى يرتكبها جيش الاحتلال من قتل وتشريد وتجويع وحصار، لكنه لم يفلح فى تهجير هذا الشعب المرابط، وتحقيق مخطط التهجير القسرى لتفريغ غزة من سكانها، ربما نجح بامتياز فى ارتكاب مجازر القتل وتحويل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وبالذات الأطفال والنساء إلى أشلاء، لكنه أبداً لن ينجح فى تفريغ الأرض من سكانها، أو القضاء على المقاومة، لأنها عقيدة وفكرة لن تزول إلا بزوال الاحتلال، ونيل الحرية.