كل مثقف يختار موقعه على خريطة الحياة داخل مجتمعه، فإما أن يتموضع بين الرأى العام يترجم رؤيته وتوجهاته ويعبر عن أشواقه وطموحاته، وبالتالى يصبح إنتاجه الفكرى وأطروحاته الثقافية موجهة من الشعب إلى السلطة القائمة (من أسفل إلى أعلى)، أو يتموضع فى بلاط السلطة التى تأخذ بأزمّة الأمور داخل المجتمع ويصبح دوره وجهده الثقافى موجهاً إلى تقريب رؤية السلطة وأطروحاتها إلى الجمهور العام (من أعلى إلى أسفل). قد يتموضع البعض فى منطقة وسط ما بين السلطة والرأى العام فيبدون مثل الواقفين على «الأعراف»، يميل بقلمه إلى أعلى مرة، وإلى أسفل مرة، تبعاً لقناعاته أو رغبته فى التعبير عن عقل السلطة أو نقده، أو تحليل العقل الجمعى العام أو اتهامه.
وعندما قامت ثورة يوليو عام 1952 وجدت النخبة المثقفة المصرية نفسها أمام موقف اختيار، سرعان ما حسمه أغلب أفرادها لصالح الانحياز لمجلس قيادة الثورة. الأساس فى هذا الانحياز تعلق بأن أغلبهم كانوا من نقاد السلطة أيام الملك فاروق، بل وألمح بعضهم بأن مصر حبلى بالثورة، وأنها قابلة للانفجار فى أى وقت، مثلما فعل توفيق الحكيم فى رواية «عودة الروح»، كما أن بعضهم دأب على الدعوة إلى الثورة على الملكية وتحريض الناس على ذلك، مثلما اتجه سيد قطب (قبل انضمامه إلى جماعة الإخوان).
قطع مثقفو مصر ما قبل ثورة يوليو شوطاً بعيداً فى نقد النظام الملكى. ولم يجد مفكر مثل عباس محمود العقاد -أحد رموز هذه النخبة- غضاضة فى أن يصرخ أسفل قبة مجلس النواب قائلاً: «ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته». وكان يقصد بكلامه «رأس الملك». لذا كان من الطبيعى أن يندفع أغلب أفراد النخبة المثقفة إلى تأييد حركة الضباط عام 1952.
وثمة ضرورة للتنبه إلى أن المناخ الليبرالى الذى ساد الحياة السياسية ما قبل يوليو كان يتيح للمثقفين مساحات كاملة لممارسة حقهم فى نقد السلطة أياً كان موقعها أو مستوى رمزيتها، أحياناً ما كان يعاقَب المتجرئون على ذلك، لكن العقوبة لم تكن تمنعهم من مواصلة دروهم.
ولا يستطيع المحلل فى هذا السياق أن يجيب بشكل حاسم عن سؤال: هل كان المثقفون فى ذلك الحين يمارسون النقد كتعبير عن رفض النظام القائم والدعوة إلى تغييره أو الثورة ضده، أم كانوا يفعلون ذلك من منطلق السعى نحو إصلاحه، أو بعبارة أخرى «إصلاح النظام من داخله»؟
فى كل الأحوال اندفع أغلب أفراد النخبة الموروثة عن العصر الملكى إلى إعلان انحيازهم لضباط الثورة، بل وبادر بعضهم إلى وصف «الحركة المباركة» التى قام بها الضباط وأطاحوا من خلالها بالملك بـ«الثورة»!، لينتقلوا بها من مربع الحركات الإصلاحية إلى مربع الثورة الكاملة.
وثمة خلاف ما بين المؤرخين حول من كان له السبق فى إطلاق وصف «ثورة» عليها. البعض يقول إن الدكتور طه حسين هو الذى فعلها، والبعض الآخر يقول إن سيد قطب هو الذى بادر إلى إطلاق هذا الوصف عليها. والأرجح أن «العميد» هو الذى فعل كما يؤكد الأستاذ مصطفى عبدالغنى فى كتابه عن «طه حسين وثورة يوليو».