كنت فى زيارة للمتحف القومى للحضارة المصرية، وهو مكان خلاب يعطى لزائريه فرصة التعرف على الحضارات المصرية المتعاقبة.. وبداخل قاعة النسيج المصرى بالمتحف لفت نظرى الزى الرسمى لوظيفة تعود للقرن التاسع عشر، يطلقون على صاحبها «الأمشجى»، ويتلخص دوره فى تمهيد الطريق أمام عربات كبار المسئولين، فيمسك فى يده عصا «خيزران» يُبعد بها الناس عن عربة المسئول حتى لا يقترب أحدهم منه فيعترض طريقه أو ربما يصل صوته أو شكواه أو مطلبه إلى المسئول فيُزعجه.
انقرضت وظيفة «الأمشجى»، لكن هناك من يرغبون فى ارتداء أزيائه واستقدام روحه من الماضى.. وإذا كان إحسان عبدالقدوس قد كتب رواية (لن أعيش فى جلبات أبى) فإن البعض لديه شغف للعيش فى جلباب «الأمشجى»، لذا قد تجد أحدهم قد خصص طاقته لانتقاد الناس إذا تعالت أصواتهم بمطلب من مسئول أو شكوى تجاهه، وينقصه فقط الظهور على المنصات ممسكاً عصا «خيزران» فى مواجهة الجمهور!هؤلاء «الأمشجية» فقدوا قدرتهم على التأثير والإقناع، حتى صارت المعلومة الصحيحة إذا صدرت من أحدهم ظن البعض أنها مجرد كذبة أخرى، أو تشكك آخرون فى صحة نواياهم.
يوجد هؤلاء بصورة ملحوظة فى وسائل التواصل الاجتماعى، حيث يحصلون أحياناً على صفات «صُناع المحتوى» أو يطلقون على أنفسهم لقب «المؤثرين» وتجدهم يتصدون للحديث فى القضايا التى تشغل الرأى العام، لكنهم يتميزون عن غيرهم فى الركض باستمرار بجوار عربة المسئول، وإذا اعترف المسئول ذاته بوجود الخطأ والسعى لإصلاحه، فهؤلاء لا يعترفون بوجود أخطاء، حتى إن البعض يصفهم بأن صفحاتهم لا مكان بها لعرض السلبيات أو الاستماع إلى الشكاوى.أتابع -بحكم عملى- اتجاهات الرأى على وسائل التواصل الاجتماعى التى تُعد أحد المصادر المهمة للحصول على المعلومات وتشكيل الرأى العام بالنسبة لقطاع من المواطنين، وهى أيضاً الوسيلة الأهم لبث الشائعات وتضليل الناس والتلاعب بعواطفهم.
ويصدمنى حجم الشائعات والأكاذيب التى تُطلَق يومياً بحق الدولة المصرية فى مقابل عدم التفات قطاعات من الجمهور لبيانات النفى أو التوضيح الرسمية، لكننى لم أعد أندهش حينما أرى أحد هؤلاء «المؤثرين» على وسائل التواصل الاجتماعى وقد تصدى للرد أو تفنيد إحدى الشائعات فلا يجد صدى من الجمهور، بل تصبح تعليقاته ومعلوماته -وإن صحت- سبباً فى تصديق الجمهور للشائعة ذاتها أو رفض تصحيح المعلومة -وإن صدقت- لمجرد صدورها منه بعد أن شاهده الجمهور يرتدى طويلاً أزياء «الأمشجى» حتى فقد مصداقيته، فلا معلومة -صادرة منه- قد تصنع فارقاً، ولا تحليل -مدعوم بكل وسائل الإقناع- يعرضه قد يُعيد تشكيل الرأى العام.وإذا انقرضت وظيفة «الأمشجى» لعدم أهميتها أو الحاجة إليها حتى صارت تُعرض داخل جدران المتحف فإن التجربة والواقع قد جعلاها «تنقرض» أيضاً، فليس لهؤلاء تأثير حقيقى أو قدرات محسوسة فى تشكيل الرأى العام، مما يعكس ضرورة ابتكار آليات جديدة لتفنيد الشائعات وإيصال المعلومات الصحيحة للرأى العام عبر وسائل التواصل الاجتماعى.