صناعة الفشل باسم «المشروع القومى» و«الجهاز الوطنى»

صناعة الفشل باسم «المشروع القومى» و«الجهاز الوطنى»
لم تحظَ سيناء، عبر تاريخها، بالاهتمام المناسب لإمكانيات التنمية المتاحة وفق مقدراتها وثرواتها أو أهميتها بالنسبة لمصر على كل المستويات، خاصة الاقتصادية والأمنية، بل تحولت «تنمية سيناء» إلى عبارة «سيئة السمعة» تُستخدم لتهدئة الرأى العام وترضية أهل سيناء بإحالتهم إلى مستقبل ينتظرون فيه تحسين أوضاعهم، وهو ما لم يحدث أبداً، وبات مع الوقت أبعد ما يكون عن التحقيق على أرض الواقع.
وإذا كانت حرب 1967 والاحتلال الإسرائيلى سبباً ومبرراً لعدم بدء أى مشروعات تنموية فى الستينات بسيناء، فإن استمرار ذلك حتى عام 1979 كان أمراً بلا سبب، سوى استمرار حالة اللامبالاة التى حركها الرئيس الراحل أنور السادات، حين قرر توصيل مياه النيل إلى صحراء سيناء، التى توقفت منذ جفاف الفرع البيلوزى للنهر، وهو ما واجه اعتراضات واسعة من الحركة الوطنية المصرية، خشية نقل مياه النيل إلى إسرائيل، خاصة بعد اتفاقية السلام وإنشاء السادات قرية ميت أبوالكوم الجديدة، والاهتمام الذى أولاه للفكرة، والذى توقف بمقتل الرجل ومعه كل محاولات تنمية سيناء، إلى أن أُعلن بعد ذلك بـ4 سنوات، عام 1986، عن السعى إلى استصلاح ربع مليون فدان بشمال سيناء، ولم يُترجم المشروع إلى واقع طوال 3 سنوات استغرقتها دراسة مشروع عرف بـ«تنمية شمال سيناء زراعياً»، وكان يهدف إلى استصلاح نفس المساحة تقريباً، ثم جرى تعديله ورفع المساحة المستهدف استصلاحها إلى 400 ألف فدان، بعد إضافة 135 ألفاً فى منطقة السر والقوارير فى وسط سيناء.
وقبل أن يبدأ المشروع صارت تبعيته والإشراف عليه لما يسمى «الهيئة العامة لتنمية سيناء»، وفى أكتوبر عام 1994 أُعلن عن خطة متكاملة لتنمية سيناء، جرى تعديلها بعد عام واحد، لتضم إقليم القناة، للاستفادة من الإمكانات المتاحة فى محافظاته الثلاث «بورسعيد والإسماعيلية والسويس»، وتحقيق ربط حقيقى لسيناء بالعمق المصرى. ووفق خيالات المخطط للمشروع، فإن المبالغ التى قدرت للاستثمارات المقترحة قرابة 110 مليارات جنيه، منها 65 ملياراً فى شمال سيناء والباقى فى جنوبها، على أن تنتهى فى عام 2017، وهو ما لم يحدث، ومن المتوقع ألا يحدث قريبا، إذ كان من المفترض البدء فى ذلك عام 2006، على أن يشمل المشروع القومى لتنمية سيناء 3 قطاعات رئيسية؛ تبدأ بزراعة 400 ألف فدان، وإنشاء 7 مناطق صناعية، وشركة متخصصة فى مجال التعدين والبترول، بخلاف استثمارات خُصصت لقطاع الخدمات وتجهيز البنية الأساسية، التى تستخدم للمشروعات الضخمة، المُقترح تنفيذها ضمن المشروع فى المحافظات الـ5 التى يشملها، بهدف توطين مليونين و700 ألف مواطن مع اكتمال تنفيذه.[Quote_1][Image_2]
المشروع الذى لم يعد باقياً على الانتهاء من تنفيذه، وفقا للخطة المعلنة، سوى 5 سنوات، لكن فعلياً لم ينفذ منه شىء يُذكر حتى الآن، وبقى سكان سيناء شمالها وجنوبها دون تعداد، الـ«500 ألف مواطن»، ورصدت جهات رقابية توقف تنفيذ المشروعات الرئيسية فى المجالات المختلفة بنسبة 75% فى مجال الزراعة و65% فى مجال التعدين، وتراجعاً ملحوظاً وبشكل أكبر فى قطاع الخدمات والمياه التى اقتربت من نسبة 90%.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة عن إنفاق قرابة 75 مليار جنيه لتحقيق المحاور الرئيسية للمشروع، فإن الواقع يكشف أن نسبة تنفيذ المشروع لا تتجاوز 20%.
ومن بين كل الوعود التى تطلقها الحكومات المتعاقبة لأهالى سيناء، فإن قرابة 60 ألف مواطن فقط انتقلوا للعيش بسيناء، قبل أن تتحول إلى منطقة طاردة، بفعل تدهور الأوضاع الأمنية قبل وبعد الثورة، وتوقفت المشروعات الرئيسية بالمشروع الواحد تلو الآخر، وعلى رأسها «ترعة السلام» ومشروع القطار الذى توقف عند «بئر العبد» بسبب سرقة القضبان الحديدية، كما آلت مشروعات صناعية أخرى إلى النسيان، مثل مشروع «استخراج الكبريت» بالشيخ زويد، وإسالة الغاز والصودا وملح الطعام، المدرجة ضمن المشروعات الصناعية المقترحة ولم ينفذ منها شىء.
وبقى وسط سيناء فراغاً استراتيجياً مرعباً، حيث إن به 30 قرية تفتقر إلى أبسط الخدمات، رغم أنها تمثل 75% من مساحة سيناء وإمكانيات الزراعة بها تتجاوز الـ90 ألف فدان.
الحكومة على لسان محافظى سيناء المتعاقبين، تعتبر أن دورها انتهى عند تنفيذ 30% من المشروع، متمثلاً فى الطرق والكهرباء والبنية الأساسية، وتلقى باللائمة على القطاع الخاص الذى لم ينفذ الـ70% الباقية من خطة تنمية سيناء، دون أن توفر له الحكومة الحوافز اللازمة، وعلى رأسها تملك الأراضى وليس حق الانتفاع.[Quote_2]
لن يتضح حجم الأزمة فى سيناء إلا إذا استعرضنا حجم الاستثمارات، التى كان من المفترض أن تُنفذ فى 17 قطاعاً تنموياً، وهو ما يتيح القياس والتحقق من مدى مصداقية المعلن مقارنة بما هو على أرض الواقع، فالتنمية العمرانية خُصص لها فى المشروع القومى لتنمية سيناء 20 مليار جنيه، أما الرى والزراعة فكان من المفترض أن يكون نصيبهما 12٫2 مليار جنيه، والصناعة والتعدين لم يتجاوز الرقم المفترض استثماره فيهما 10 مليارات جنيه، وعلى أهمية السياحة شمالاً وجنوباً، فقد رصدت الخطة 8٫2 مليار جنيه لهذا القطاع، ولأن الطاقة عماد التنمية فقد خصص لها 6 مليارات جنيه، والنقل والمواصلات خصص لهما 6٫2 مليار جنيه، وجاء نصيب الخدمات التموينية والتجارية 830 مليون جنيه، والثقافة والإعلام 260 مليون جنيه، وحصة التدريب والقوى العاملة 40 مليون جنيه، والرعاية الاجتماعية 50 مليون جنيه، والشباب والرياضة 600 مليون جنيه، وقطاع العدالة 20 مليون جنيه، ومياه الشرب والصرف الصحى 6٫6 مليار جنيه، أما التعليم فكان نصيبه 1٫065 مليار جنيه.[Image_3]
وتكمن عقدة سيناء فى المياه التى تعتبر المحرك الرئيسى لعملية التنمية، التى لم توجه لها العناية الكافية مقارنة بما جرى رصده وإنفاقه من أموال، ولا تتجاوز كمية المياه المتاحة فى سيناء 240 مليون متر مكعب، منها قرابة 80 مليون متر مكعب من المياه الجوفية السطحية، و10 ملايين متر مكعب من المياه العميقة والمتوسطة، و70 مليون متر مكعب يتركز معظمها بوسط سيناء.
وتنفيذاً لدراسات جامعة قناة السويس وخطة المشروع القومى، اعتبرت ترعة السلام العمود الفقرى للمشروع بهدف زراعة 625 مليون فدان، تنقل إليها قرابة 4٫5 مليار متر مكعب من المياه لاستزراع 77 ألف فدان فى المناطق الواقعة شرق السويس، يضاف إليها مشروعات أعالى النيل الرامية لزراعة 250 ألف فدان لم ينفذ منها شىء يذكر.
وشمل المشروع استغلال 50 ألف فدان اعتماداً على مياه السيول فى مناطق وادى الخرافى ووادى العريش، يضاف إليها 7 آلاف فدان اعتماداً على مياه الآبار، وعلى نفس المصادر بالمخزون الجوفى بوادى فيران وسهل القاع ووادى غرندل، لتضيف 65 ألف فدان للرقعة الزراعية بالمشروع.
وتتضح أهمية إلقاء الضوء على «ترعة السلام» المشروع الأهم والأخطر الذى كان من المفترض أن يصل إلى مراحله الأخيرة، مع اقترابنا من نهاية المشروع وتنفيذ الجزء الأهم منه، رغم عدم تنفيذنا لباقى مراحله التى كانت من المفترض أن تغير وجه الحياة فى سيناء.
وترعة السلام تعود بفوائدها، على عكس الشائع والمعروف، ليس على سيناء فقط ولكن على محافظات الدقهلية ودمياط والشرقية والإسماعيلية، وجزء من زمام أراضى غرب القناة يضاف إليها سهل الطينة الواقع ضمن النطاق الإدارى لمحافظة بورسعيد، بواقع 50 ألف فدان، وجنوب القنطرة 70 ألف فدان، وبئر العبد70 ألف فدان أخرى، والمنطقة محل الخلاف بالسر والقوارير فى وسط سيناء، بواقع 135 ألف فدان.
وأعلنت الحكومة مع نهاية 2008 استصلاح 118 ألف فدان تقريباً غرب القناة مع انتهاء أعمال المرحلة الأولى التى تكلفت ما يقرب من 406 ملايين جنيه، وتواكب معها إعلان تنفيذ الجزء الأكبر من المرحلة الثانية بنسبة 90% فى منطقة شرق قناة السويس بالقناة الرئيسية بطول 86 كيلومتراً تقريباً، وترعة جنوب القنطرة شرق القناة والبالغ طولها 35 كيلومتراً، وكذلك المحطات الخاصة بالرى والصرف ومآخذ الرى فى منطقة سهل الطينة لتسمح باستزراع كامل الأراضى المستهدفة، 50 ألف فدان، بخلاف 12 ألف فدان جنوب القنطرة، بمنطقتى رابعة وبئر العبد.[Quote_3]
وكان نصيب أبناء سيناء 6 آلاف و750 فدانا حتى نهاية 2008، لم تزد قيراطاً واحداً، مع توقف المشروع تقريباً، عبر المأخذ الثانى، وحملات إزالة التعديات التى أجرتها حكومات ما قبل الثورة، فيما عرف بـ«إعادة التصحر»، واقتلاع المشروعات والناس من أراضيهم وأملاكهم.
ولم يتوقف الجدل حول وجهة الترعة إلى السير بمحاذاة الساحل الشمالى، وتجاهل منطقة السر والقوارير، التى أوصت دراسة جامعة قناة السويس باستهدافها، وتلك التوصية أغفلت تماماً، وصار الحديث عن إملاءات خارجية غيرت توجهات التنمية.
ولم يتوقف الجدل عند هذا الحد، حيث أشار كثير من الخبراء إلى أن المشروع يعتبر أحد أوجه إهدار الأموال، دون مردود موازٍ بتحقيق تنمية حقيقية خاصة، مع ارتفاع تكلفة استصلاح الأراضى، وتأثيرات نقل مياه الصرف الزراعى وخطورتها على المياه الجوفية وملوحة الأراضى، بخلاف ارتفاع ملوحة الأراضى المستهدف زراعتها بالساحل الشمالى.
ولم يستبعد الخبراء مشاكل النزاع حول الملكية وتوجه الدولة إلى خلق كيانات زراعية كبرى بالأساس، بما يقلل فرصة صغار الملاك، ولا يعود على المجتمع بالفوائد المفترضة لمشروع قومى حقيقى، كان مفترضاً أن يحقق تنمية بشرية حقيقية.
وتبقى قضية توصيل المشروع إلى منطقة السر والقوارير، 30 ألف فدان، محل جدل كبير، كونها أُضيفت إلى المشروع الأصلى، رغم وجودها قريبة من الحوض الرئيسى للمياه الجوفية على مساحة تقترب من 20 ألف كيلومتر مربع، وإمكانية الاستفادة من مياه السيول وارتفاع أراضى المنطقة، بنسبة تزيد على 70% من مساحتها، إلى أكثر من 100 متر، فوق منسوب البحر، يستوجب معها إنشاء محطات رفع تستهلك كميات كبيرة من الطاقة لرفع المياه تفوق ما هو مطلوب، للمراحل الأربع الأخرى من المشروع، التى تبلغ مساحة المستهدف استزراعه 268 ألف فدان تحتاج إلى 1٫5 مليون ميجاوات ساعة سنوياً.
المشروع بكامله متوقف تماماً، مثله مثل باقى برامج التنمية التى أعلن عنها، حيث توقف السعى لإعادة الغطاء النباتى لتنشيط الرعى لمساحة 300 ألف فدان، ولم تتمكن من تحقيق المستهدف فى مجال صيد الأسماك بصيد 37 ألف طن، وتدهور إنتاج بحيرة البردويل، وتراجع نشاط الصيد بخليجى العقبة والسويس.
وتوقف النشاط الصناعى عند مصنعين للأسمنت فى وسط سيناء؛ أحدهما قطاع خاص، والآخر تابع للقوات المسلحة، وأغلق مشروع فحم المغارة، رغم توافر 52 مليون طن به، كما توقف مشروع الكبريت بالشيخ زويد، ولم تنفذ من المناطق الصناعية التسع فى العريش أو القنطرة وبئر العبد أى أعمال واضحة، وبقيت المساحات المخصصة خالية ورهن الفشل فى إدارتها.
ولا يمكن الحديث عن الإخفاق الكامل للمشروع دون الإشارة إلى محاولات الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق، الذى حاول إحياء أمله فى المشروع القومى بإنشاء جهاز متخصص سمى «الجهاز الوطنى لتنمية سيناء»، ترأس اجتماعه الأول قبل رحيله عن حكومة الإنقاذ الوطنى.
وجاء قرار رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل الذى يحمل رقم 915 لسنة 2012 بإصدار النظام الأساسى للجهاز الوطنى لتنمية شبه جزيرة سيناء فى 18 مادة، لينسف فى مادته الأولى كل أمل فى أن يكون للجهاز دور حقيقى، حين نص على أن قراراته لا تصدر إلا بعد موافقة وزارتى الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات.
ووفقاً للقرار فقد انحسر دور الجهاز فى اقتراح المشروعات التنموية والاستثمارية فى إطار السياسات العامة والخطط الاستراتيجية الوطنية، حيث رهن القرار التصرف فى الأراضى بالتنسيق مع «المركز الوطنى للتخطيط» باستخدامات أراضى الدولة، على أن يجرى التصرف فى الأراضى المملوكة للدولة وفقا لتسعيرة يحددها الجهاز، بخلاف إصدار التراخيص مع الالتزام بقواعد حق الانتفاع وفقاً للقانون رقم 14 فى مادته رقم 11 بضرورة الالتزام بقواعد الأمن القومى.
واستمر القرار فى وضع قيود على الجهاز وقراراته ومتابعاته ورهنها بالعرض على رئيس مجلس الوزراء، ولم يترك للجهاز حرية اتخاذ أى قرارات إلا فيما يخص اللوائح التنظيمية والداخلية للجهاز وشئون العاملين ولائحة الجزاءات والهيكل التنظيمى للجهاز، ولا جدوى فى استمرار سياسات وجهات إدارية أوكل لها أخطر ملفات مصر فى تاريخها المعاصر والتحدى الحضارى الكبير الذى ثبت أنه لم يتحقق فيه شىء يذكر، تحت تأثير غياب الإرادة السياسية والتخبط، بفعل الجهل واللجوء إلى الحلول التى لا تتجاوز مساحة الأوراق التى تكتب عليها القرارات الحكومية، دون أن تدرك أننا بهذا أدخلنا سيناء دائرة الضياع وباتت استعادتها أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
أخبار متعلقة:
صناعة الفشل باسم «المشروع القومى» و«الجهاز الوطنى»
سيناء المجنى عليها
«وادى النصب» أول نقطة تتنفس الحرية فى الجنوب
العميد صفوت الزيات: عمليات تطهير سيناء تستغرق بين 5 و10 سنوات
«حازم المصرى» الارتباط موجود بيننا وبين تنظيمات غزة.. ولا نعترف بالحدود
«تدويل سيناء».. محاولة إسرائيلية للضغط على مصر
سيناء.. للتدهور أسبابه
القرش وكبريت وبورتوفيق أماكن شاهدة على بطولات الجندى المصرى
مسعد أبوفجر: «حماس» أخطر على سيناء من إسرائيل
بضائع وسيارات وأسلحة وأفراد وأموال.. إمبراطورية «الأنفاق» أقوى من الدولة
من «البندقية» إلى «الدوشكا».. 4 خطوط لتهريب السلاح
خريزة.. مجاهدون فى عشش صفيح وعملاء فى سيارات فارهة
خبراء و«ثوار» فى ندوة «الوطن» يجيبون عن السؤال الصعب: هل ضاعت سيناء؟
سيناء ما بين التهميش والبيع
رأس العش معركة العزة وعودة الروح