حكاية مدينة .. من "منتجع عالمى" إلى أطلال يسكنها "التلوث"

كتب: سماح عبدالعاطى:

 حكاية مدينة .. من "منتجع عالمى" إلى أطلال يسكنها "التلوث"

حكاية مدينة .. من "منتجع عالمى" إلى أطلال يسكنها "التلوث"

على مقعد خشبى عتيق خلف بنك الأقمشة يجلس رمضان مرغنى (78 سنة). حوله وفوقه تمتد أرفف بادية القدم تحتضن أثواب القماش بأنواعها المختلفة، «كريتون» و«لونيه» و«جبردين»، و«صوف»، و«حرير» و«قطيفة». فى مواجهته تماماً ينفرج باب محله القديم على شارع مزدحم للغاية، يرسل الرجل بصره للخارج فى نظرات سريعة ثم يسترده ليقلب عينيه فى أرفف بضاعته وهو يتنهد بحرارة واضحة، لعله يتذكر حال الشارع قبل أكثر من خمسين عاماً حينما اختار مدينة حلوان ليسكن فيها ويفتح محلاً لتجارة الأقمشة، لم يكن الشارع هو الشارع، ولا المدينة هى المدينة، كل شىء تغير للدرجة التى تدفع بالدموع إلى عينيه كلما حاول أن يستعيد ذكرياته القديمة، يتغلب على دموعه بسرعة وهو يقول بصوت مخنوق «حلوان؟ هى فين حلوان؟.. عليه العوض فيها». مدينة هادئة، نظيفة، جوها جاف، ومياهها صحية، وزوارها من كل أنحاء العالم يأتونها طلباً للاستشفاء، هذه هى حلوان التى يعرفها رمضان تاجر الأقمشة عندما قرر أن يسكنها، يقول إنه جاءها يسعى من «المحلة الكبرى» مسقط رأسه، حيث كان يعيش مع أسرته، ويعمل فى بيع الأقمشة مع مجموعة تجار ينتمون للجمعية الشرعية، ولما كان لم يبلغ السن القانونية التى تؤهله للحصول على رخصة تجارية، فقد انتظر ريثما يتم عامه الواحد والعشرين، ساعتها فقط قرر أن يفتح مشروعاً تجارياً يخصه، ولم يشأ أن يبدأ مشروعه فى المحلة، حتى لا ينافس من كان يعمل معهم، فاتجه فكره إلى حلوان. «أنا جيت حلوان فى أول مايو سنة 1956» يتحدث رمضان منقباً فى ذاكرته عن تلك الأيام، يواصل «اخترت حلوان بالذات عشان سمعت عن نظافتها وهدوئها وجوها الخالى من الأتربة». لم يكن ما سمعه رمضان عن حلوان كذباً، فقد كانت كذلك، يحكى عنها فيقول إن معظم زوارها كانوا من دول اسكندنافيا «كنت باشوفهم ييجوا حلوان محمولين على نقالات، وبعد ما يقعدوا فترة كانوا بيروحوا على رجليهم»، ولا عجب، فكما يروى رمضان أن حلوان كانت معروفة على مستوى العالم بأنها مشفى طبيعى، خاصة أنها كانت تحتوى على عيون مياه كبريتية تستخدم لعلاج الروماتيزم، وهى العيون التى لا تزال موجودة حالياً رغم قلة الإقبال عليها كما يقول رمضان، ليست المياه الكبريتية فقط، ولكن أيضاً الجو الصحى الجاف الذى عرفت به حلوان، الذى دفع عدداً كبيراً من المشاهير لزيارتها والإقامة فيها طلباً للاستشفاء، منهم الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب، وشاعر العامية الكبير بيرم التونسى، يتذكرهما رمضان جيداً فقد رآهما كما يروى، وتبادل معهما الأحاديث.[SecondImage] أما المشاهير الذين اختاروا حلوان للسكن فيتذكر منهم رمضان عائلة العزامية التى ينتمى إليها الدبلوماسى الراحل عبدالرحمن عزام، أول أمين عام لجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى الممثلة الراحلة نجمة إبراهيم وزوجها المخرج عباس يونس، وكذلك المفكر الإسلامى سيد قطب، صاحب كتاب «فى ظلال القرآن»، الذى تم إعدامه فى الستينات على خلفية اتهامه وآخرين بمحاولة إحياء تنظيم محظور والشهير وقتها بجماعة الإخوان المسلمين. ومن سكان حلوان القدامى أيضاً الفريق محمد حيدر باشا وزير الحربية الأسبق، وأحد أفراد أسرة العينى باشا صاحب مبانى قصر العينى، وهو الذى أنشأ مستشفى حلوان العام كما يحكى رمضان، وآخرهم الدكتور محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ الأسبق، الذى يقول عنه رمضان «كان قصره هنا قدام المحل بتاعى، وكان كبير وله جنينة واسعة مليانة أشجار فاكهة».[ThirdImage] لم يكن اختيار هؤلاء المشاهير للسكن فى حلوان كما يحكى رمضان إلا لما اشتهرت به المدينة من تنظيم ورقى، فيذكر هو أن المدينة كانت مصممة على شكل مربعات هندسية 50 متر × 50 متر، أو 100 × 100، وكانت الشوارع تحمل أسماء الباشوات القدامى مثل «رستم»، و«خسرو»، و«منصور»، وكانت هذه الشوارع ترصف كل ثمانية شهور، وكان الغالب على منازل المدينة هو القصور والفيلات التى تحوطها الحدائق، وكانت رائحة الياسمين تغزو الجو فى الصباح الباكر، يتنسمها المارة فى الشوارع، هذا غير ما اختصت به المدينة من حدائق وأماكن تنزه، فيذكر منها رمضان الحديقة اليابانية التى يصفها بقوله «كانت تعتبر مزاراً مصرياً يابانياً»، وكذلك متحف الشمع، وغيرهما، بالإضافة إلى دور السينما التى كان من أشهرها سينما الأندلس التى يقول رمضان إنها كانت تقع عند التقاء شارعى يوسف وشريف وكانت مخصصة لعرض الأفلام الأجنبية، وسينما فاتن التى كانت مقامة عند التقاء شارعى عبدالرحمن وراتب، التى كانت تعرض الأفلام العربية. على هذا الحال مضت حلوان فى السنوات الأولى التى سكنها فيها رمضان، وساعد على احتفاظها بهدوئها بعدها الكبير عن العاصمة المصرية، وعدم توفر وسيلة مواصلات عدا القطار الذى كان ينقل الركاب من محطته الرئيسية بميدان باب اللوق بوسط البلد، وهو القطار الذى يقول عنه رمضان «كان درجتين.. أولى بـ6 قروش، وتانية بـ3 قروش»، على أن التغيير الكبير الذى ضرب المدينة حدث بالفعل مع بداية زحف المصانع والشركات وعمالهما للمدينة الهادئة، فيقول رمضان إنه يتذكر جيداً أن هناك مصانع كانت تستخدم كمخازن للجيش البريطانى وقت الاحتلال فى منطقة وادى حوف، ثم بعد الثورة تغير اسمها للمصانع الحربية، وكان هناك مصنع الحديد والصلب الذى تم إنشاؤه فترة حكم عبدالناصر، وكانت الدولة مهتمة للغاية بتلك المشروعات كما يقول رمضان، فيتذكر مثلاً أن زكريا محيى الدين رئيس الوزراء الأسبق زار حلوان فى الستينات أثناء أزمة ارتفاع أسعار الأسمنت وعقد مؤتمراً جماهيرياً، كما يذكر أنه كان يشاهد فى حلوان صلاح سالم أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو اهتمام يفسره رمضان بأن الدولة وقتها كانت حريصة على النجاح، لذلك فقد أنشأت مجموعة مصانع باسم الهيئة العربية للتصنيع، التى شاركت فيها بعض الدول العربية فى البداية كالعراق والسعودية والكويت، وكانت تنتج الصناعات الثقيلة، وعلى رأسها صناعة الطائرات، ومع مرور الوقت وعدم مجاراة الهيئة للحياة الصناعية والتقدم كما يقول رمضان، انهارت معظم منتجاتها، الأمر الذى جعلها تنقسم إلى كيانات مستقلة تحت أسماء 36، و360 الحربية. عدد آخر من المصانع يقول رمضان إن حالها آل إلى نهاية مأساوية مثل مصنع حرير حلوان الذى لم يكن عدد العاملين به يتجاوز الـ1200 عامل، وصلوا بالعشوائية وقوانين التوظيف إلى 16 ألف عامل، ليتحول المصنع من الكفاية الإنتاجية إلى الفقر، وهو مهدد الآن بالإغلاق كما يقول رمضان. أما العمال الذين جاءوا من قراهم فى الدلتا والصعيد ليعملوا فى المصانع، الذين ينسب إليهم رمضان جزءاً من التدهور الذى أصاب المدينة، فيقول إن سوء تهجيرهم للعمل فى المصانع، أدى لتضييق المساحات، ومثل ضغطاً على جميع المرافق، وعلى رأسها الطرق والمواصلات وغيرهما. لا يمل رمضان على ما يبدو الحديث عن ذكرياته فى حلوان، يتوقف قليلاً ليلتقط أنفاساً مبعثرة قبل أن يقول «أنا حقيقى مفتقد حلوان القديمة، مفتقد النظافة والأدب والجيرة والأخلاق، بعد ما بقى الموجود خليط أخلاق ومبادئ ومعاملات مختلفة عن اللى اتربينا عليها، وتحول العمل من أجل المجموع إلى العمل من أجل الفرد، وكل واحد بقى يعمل لصالحه، أما حلوان القديمة.. فيا ألف خسارة». أخبار متعلقة: «حلوان».. مرثية مدينة النهضة الصناعية تمنح حلوان لقب «مدينة السموم الأولى» كابيرتاج .. الطمى والمياه والشمع أشهر وسائل علاج الروماتيزم «متحف الشمع» خارج التصنيف العالمى.. والحكومة أغلقته 5 سنين للترميم دون نتيجة محطة المترو : صراخ الباعة الجائلين .. يرحب بكم مرصد «حلوان» الفلكى.. حين تكتشف الأرض أسرار السماء «منصور» الباشا يفقد هيبته بسبب شماعات الملابس الجاهزة ونداءات الباعة الجائلين «الحديقة اليابانية» و«ركن فاروق».. هنا يلتقط أهالى المدينة أنفاسهم مخرات السيول.. مقلب للقمامة نهاراً وكر للخارجين على القانون ليلاً