انطلقت النخبة المصرية بكل أطيافها ومعبراتها إلى مقر مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952، وأعلنت تأييدها للضباط، وسارعت إلى التقاط الصور مع اللواء محمد نجيب، وعلي باشا ماهر، رئيس الوزراء المكلف من قبَل الضباط، كان من بينهم مثقفون وكتّاب كبار وفنانون ورجال سياسة.
تطوّع كبار القانونيين من النخبة الثقافية المنتمية إلى العهد الملكي، مثل عبدالرزاق السنهوري وسليمان حافظ، لتكييف القوانين تبعًا للمزاج الجديد، وقد يكون من المفيد أن نتوقف أمام واحد من أبرز أفراد النخبة القانونية التي سارعت إلى عرض وتقديم خدماتها لضباط مجلس قيادة الثورة، إنه القانوني الشهير سليمان حافظ.
سليمان حافظ هو المهندس القانوني لعزل الملك فاروق من الحكم عام 1952. وهو محامٍ ورجل سياسة انتمى إلى الحزب الوطنى الذي أسسه مصطفى كامل. بمجرد تحرك الجيش عام 1952 كان تفكير «سليمان» مركزاً فى خلع الملك، وتحرك سريعاً من أجل وضع هذه الفكرة على مائدة تفكير الضباط الأحرار، ويحكى رجل القانون فى مذكراته أن الضباط كانوا مهيئين لها قبل أن يقذف بها إليهم.
تولى سليمان حافظ، مع الدكتور عبدالرزاق السنهورى، صياغة وثيقة تنازل الملك عن العرش لصالح ابنه الأمير أحمد فؤاد، وكان رسول الضباط وحكومة على ماهر إلى الملك ليقوم بالتوقيع على الوثيقة. سليمان حافظ نموذج لرجال لا يخلو منهم عصر، قادرين على منح رؤاهم وآرائهم الشخصية بُعداً وطنياً، ولا يترددون فى مزج الخاص بالعام فى تفكيرهم، لتجدهم يتخذون القرارات تبعاً لمزاجهم الشخصى، ولا يُعدمون بعد ذلك حيلة يزينون بها لغيرهم أن ذلك هو ما يخدم الوطن والقضية الوطنية.
من أبرز ما يركز عليه سليمان حافظ فى مذكراته الحديث عن الكيفية التى هرول بها الساسة ورجال أحزاب ما قبل الثورة نحو مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، ليقدموا فروض الولاء والطاعة والتأييد لمحمد نجيب ورجاله، وكان من بينهم رموز حزب الوفد الذي اشتد نشاطه من أجل تبنى الحركة حتى يركب عليها ويحكم.
ما يذكره سليمان حافظ يبدو صادقاً، وروايته تلك ظهرت فى كتابات أخرى اهتمت بتوصيف المشهد بعد حركة الجيش في يوليو 1952، لكن ذلك لا يمنع من أن سليمان حافظ كان يكن عداءً معلوماً ومعروفاً لحزب الوفد، وأنه لم يكن هو وعلي باشا ماهر أقل حرصاً من رجال الوفد على التقرب إلى الضباط وتقديم كل الخدمات القانونية الممكنة لهم.
في كل اجتهاداته التى قدمها سليمان حافظ لمجلس قيادة الثورة حاول استبعاد الوفد من الصورة، والتمكين لهم، لم يطلب منه أحد من الضباط ذلك، لكنه كان من ذلك النوع الذي يعرف طلبات من يستخدمه ويجهزها له على أكمل وجه.
سليمان حافظ مجرد نموذج على شخصيات شتى من الساسة والقانونيين والمفكرين والأدباء والفنانين الذين امتدحوا حكمة شباب كانوا يرون أنهم يفتقرون إلى الحكمة، وتغنوا بمهارة وقدرة ثوار لم تكن لديهم قناعة كافية بمهارتهم أو قدرتهم.
«سليمان» وجوقته هم ببساطة النخبة التي مثلت أبرز وأهم سمة كان من الضروري أن يحتال بها المثقف بعد قيام ثورة يوليو كي يحتفظ بالموقع أو بالدور، والمتمثلة في الانتهازية، وعدم الممانعة في أن تكون «نخبة كل العصور».
وجد الضباط الأحرار في هذه النخبة أداة جيدة لتحقيق مآربهم من أقصر الطرق الممكنة، فرحبوا بها في بداية حركتهم، وأعطوها المساحة كاملة، ثم ألقوا بها -مع أقرب فرصة- فى عرض الطريق. كل من يتتبع أخطاء ثورة يوليو ويسند إليها العديد من المشكلات والأزمات التي حاقت بالبلاد ولم تزل تمارس تأثيرها على الحياة حتى وقتنا الحالي، عليه ألا يغفل حقيقة أن الحكم بعد 1952 كان مجرد عرض لمرض أخطر اسمه «النخب الفاسدة».