الشارع كان هادئاً.. حينما كانت تشير الساعة إلى الواحدة مساء فى منطقة حدائق الأهرام.. قليلون على الطريق وداخل المقاهى المتراصة والسهرانة طول الليل.. قطع السكوت صوت قطة يبدو أنها تستغيث، ورغم الهدوء الشديد لا أعرف كيف تجمع الناس وقتها فى لحظات بحثاً عن مصدر موائها.. حتى اكتشف أحدهم أنها «محشورة» بغرابة خلف «إكصدام» سيارة متهالك.. كانت صغيرة فى حجم كف اليد.. فى عيونها خوف وفى صوتها ألم.
حاول الناس الذين تجمعوا فى الشارع وخرجوا من المقاهى إخراجها.. وزاد عددهم وتضاعف، الكل له هدف واحد وهو محاولة إنقاذها وذلك فى تعاون تام ومنظم صاحبه قلق واضح على مصيرها.. كثرت المحاولات بداية من رفع السيارة والنزول أسفلها فى محاولة لالتقاطها.. مع محاولات سحبها ومد الأيادى داخل السيارة على أمل أن يلتقط أحدهم القطة المسكينة.
مرت ساعة تقريباً حتى نجحت محاولة فخرجت القطة فى حضن الناس بحثاً عن طمأنينة بعد لحظات ذعر عاشتها.. وارتسمت الابتسامة على الوجوه فى سعادة بالغة نقية وحقيقية.. وظهرت الحنية والطيبة بعد وقفة الجدعنة.. فأحدهم طبطب عليها.. وغيره اشترى لها اللبن والطعام.. وصاحب مقهى أحضر لها المياه، وانتهى اليوم بأن أعلن أحدهم قراره بأن يأخذها معه إلى منزله لتربيتها بدلاً من تركها لحياة الشارع والمجهول.. وانصرف الجميع بعد الاطمئنان عليها.
فكرت حينها وتساءلت: ماذا حدث للمارة فحرك مشاعرهم وأظهر طيبتهم؟ فكان دافعهم الوحيد إنقاذ الحيوان الصغير.. وكثرت الأسئلة.. فلماذا تقل الحكايات عن الطيبين؟.. فى وقت انتشرت فيه قصص التربص والغيرة وحب الذات خاصة على السوشيال ميديا؟
ولماذا لا يرى كثير من الناس الجانب الجمالى الموجود حولهم على الرغم من أنه منتشر بكثرة؟. والشارع المصرى ملىء بمواطنين لهم مواقف بطولية وتصرفات ملائكية تتكرر فى تفاصيل الحياة اليومية، حتى لو تبدو بسيطة، فالأصل طيب وأصيل، والناس تحب الخير للناس وللحياة.
ولذلك أحاول يومياً أن أشاهد الجانب الجمالى فى تصرفات الناس، وأن أبعد النظر عن كل ما هو سلبى، وهو ما كان سبباً فى أن أرى الحياة أفضل.. ومن بين المواقف للناس الطيبين التى أتذكرها، حينما قابلت فى حى باب الشعرية «عم صابر»، كبير السن كثير الحكمة، حيث يحرص كل صباح على أن يرص القلل على مسند خشبى أمام بيته، ويقوم بملئها بالمياه.. هدفه هو نشر الخير ومساعدة المارة العطاشى تحت شمس حامية.
كما قابلت فى «السيدة عائشة» رجلاً سبعينياً يستيقظ كل صباح ليروى الزرع أمام بيته حتى يزيد الشارع جمالاً، فهو يحب الجمال ويرى أن جيرانه يستحقون رؤية النباتات الجميلة.. وغيره الكثيرون يقومون بمهمة مشابهة.
وفى أحد الشوارع قابلت «عم ممدوح» بائع الخضار، والذى جاء من أسوان ويقف يومياً بحثاً عن رزق، يبتسم ببراءة فى وجه المارة، يحب الناس والحكايات، ويكتب الشعر عنهم ومعهم.. شعر نابع من فطرته وبراءته، يحكى عن الجمال والحب وعن رحلته وعن الطيبين والخير الموجود فى الناس.. وفى دوران شبرا رأيت «عم ألفونس» الرجل الستينى حيث يقف فى الميدان منذ أكثر من 30 عاماً، يحرص على أن يلقى السلام والمحبة على الأطفال أثناء الذهاب إلى مدارسهم، فلم يرزقه الله أطفالاً فيعتبرهم جميعهم أبناءه وأحفاده.. وهم ينادونه ببراءة: جدو ألفونس وهو اللقب المحبب لقلبه.
ورأيت سيدة تملك محل ملابس أطفال.. اختارت أن تبيع للفقراء والأيتام بنصف الثمن، ورأيت لافتات عدة أمام مطاعم مكتوب عليها: من كان لا يملك ثمن الطعام فالمطعم يرحب به.
وأشاهد يومياً أناساً يساعدون غيرهم بدون مقابل ولا أغراض ولا مصالح، وسيدات وكبار سن ينشرون الدعوات والمحبة غير المشروطة على المارة، دعوات بالستر والصحة والخير والسعادة.. يومياً أقابل طيبين.. الحياة بالنسبة لهم ليست معركة ولا سباقاً فيه مكسب وخسارة، هم أصحاب القلوب النقية والفطرة السليمة، لهم مواقف بطولية وتصرفات ملائكية. فقط انظر حولك وداخلك سترى الجانب الجمالى فى كل مكان داخل قلوب الناس.