يعلِّمنا السيد المسيح المعنى الحقيقى للمحبة قائلاً: «وصيتى هى: أَحبُّوا بَعضكَم بعضاً كما أحببتُكم. ليس لأحدٍ حُبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه فى سبيل أحبَّائِه» (يوحنا 15: 12-13). هل نستطيع محبة الغير دون أدنى تضحية؟ كيف أُعلن عن محبتى للآخرين دون أن أقدِّم لهم قسطاً من التضحية؟ يُحكى عن شقيقين كانا مثالاً حيّاً للمحبة، أحدهما كان متزوجاً والآخر أعزب، وكانا يمتلكان مزرعةً كبيرة تنتج لهما كميات وفيرة من القمح، وكان كل واحد منهما ينال نصف المحصول. وفى بادئ الأمر كان كل شىء يسير على ما يرام، ثم بدأت الهواجس تطاردهما، فكان الأخ المتزوج يستيقظ من نومه أثناء الليل نتيجة القلق، ويهمس فى داخله: «ليس من العدل أن أخى غير المتزوج يحصل على نصف المحصول مثلى، فأنا عندى زوجة وخمسة أبناء، فلماذا أقلق على مستقبلى؟ لكن مَن سيعتنى بأخى فى شيخوخته؟ لذلك يجب علىّ أن أترك له النصيب الأكبر من المحصول».
وبناءً على ذلك كان يستيقظ أثناء الليل ويذهب سراً إلى المخزن الذى يضع فيه شقيقه الغلّة، ويترك له كمية من المحصول. وبالمثل كان الأخ الأعزب يقلق ليلاً ويفكر فى مستقبل أخيه المتزوج مردداً فى ذاته: «ليس من العدل أن أنال نفس كمية المحصول مثل أخى المتزوج، فلديه زوجة وخمسة أبناء، بينما أنا ليس لدىَّ من أخزّن له للمستقبل». حينئذ كان يستيقظ ليلاً ويذهب إلى مخزن الغلال الذى يمتلكه أخوه، حاملاً معه كمية كبيرة من القمح، ثم يقوم بتفريغها عنده، دون أن يدرى أحد بذلك. وفى إحدى الليالى، استيقظ كل منهما فى الوقت ذاته، وكان كل واحد منهما يحمل على كتفيه كيساً مليئاً بالمحصول ليقوم بإهدائه لأخيه، فتقابلا معاً. وبعد عمر طويل، توفى الشقيقان وعرف أهل القرية قصتهما الرائعة، فقرروا بناء نُصب تذكارى لهما تخليداً لمحبتهما غير المحدودة، وقاموا بهذا فى موضع التلاقى نفسه، معتبرين إياه أقدس مكان فى القرية كلها.
نتعلّم من هذه القصة الواقعية أن التدين الحقيقى لا يقوم على ممارسة الطقوس والشعائر الدينية المطلوبة فقط، ولكن على أعمال المحبة والرحمة. فبدون الحُب يصير كل ما نفعله أو نقوم به مملاً وشاقاً ومزعجاً، حتى الأعمال البسيطة التى لا تتطلب منّا جهداً أو وقتاً أو مالاً؛ نشعر بأنها شاقة ومُتعبة، فالأسرة والأصدقاء والدراسة والعمل بدون حُب تصبح عبئاً ثقيلاً لا يُحتمل، وواجباً مفروضاً علينا يطاردنا نهاراً وليلاً. ولكن بالحُب يتحوَّل كل شىء إلى سعادة وسرور وذى مذاقٍ خاص، كما أننا لن نشعر بالوقت أو التعب فى كل ما نقوم به. إن أعظم مثال عن الحُب الصادق الحقيقى نستشفه من علاقة الوالدين بأبنائهما. نحن نعلم أن الابن لا يحب والديه بنفس الدرجة والمستوى، لأن حُب الوالدين مجانى، وكلاهما يتوقعان أن يخذلهما الأبناء فى حُبهما، ويشعران بذلك عندما يصطدمان بجفاء وبرودة أولادهما فى التعامل معهما، وبالرغم من هذا، لم ولن يتوقف أحدهما عن حبّه الصادق لهم، لأن مَنْ يحب حقاً سيتألم كثيراً.
فالمحبة أمرٌ عظيم، وخيرٌ أعظم لا يوازيه شىء فى هذه الدنيا، لأنها تخفف دون سواها كل ما كان ثقيلاً، وتحمل الأعباء عن الذى يُحب، كما أنها تُبدّل المرارة إلى عذوبة وحلاوة. ماذا ينفع الإنسان إذا امتلك القصور الذهبية وعاش فى رخاء ورفاهية، ولكن قلبه كان خاوياً من حُب الناس؟ لن يستطيع أى شخص أن يسرق ما نجحنا به فى حُبّنا، لأن ثروتنا الحقيقية هى ما أحببناه بالفعل. كل شىء يزول مع مرور الوقت وخاصةً بالموت، ولكن الحُب هو الشىء الوحيد الذى لن يسرقه أحدٌ منّا، لأنه قوى كالموت. كم من الوعود بين العشّاق بالحب الأبدى لبعضهم البعض، لكنها خُذلت بعد فترة وجيزة؟ ومن الممكن أن ينقلب هذا الحُب إلى بُغض أبدى ومقاطعة دائمة بلا عودة ولا رجوع، فالزمن هو الحَكم الحقيقى لمسيرة الحُب، مهما كانت العواصف الشديدة أو التقلبات الخارجية. إن الله هو الحُب الحقيقى، قد وضع بداخلنا بذرة الحُب، فعلينا أن نحتضنها ونزرعها ونسقيها ونُغذّيها بالأعمال السامية والجميلة والتضحية حتى نحصل على ثمارها اليانعة. فالحُب هو مرادف للتضحية بلا حساب، ومن شروطه العطاء بلا حدود، والتفانى دون مقابل، والصدق دون التفاف، والشفافية دون تلوُّن. ونختم بالقول المأثور للشاعر Ezra Pound: «ما تحبّه بالفعل سيبقى ويدوم، أما الباقى نفاية، وكل ما تحبّه حقاً لن يُنزع منك، إذاً سيكون ميراثك كل ما تحبّه».