كنت أسير خفيفاً، أكاد أطير فى شوارع روما، أنظر يميناً ويساراً بسعادة نحو المارة والعربات والمبانى ومطاعم البيتزا الإيطالية، رحلة لا أنساها أبداً مهما مرت السنوات وزادت السفريات، شاهدت خلالها مبنى «الكولوسيوم»، وهو المدرج الرومانى العملاق الذى يقع فى وسط روما، ورأيت واحدة من أشهر نوافير العالم وهى «تريفى»، وشاهدت الناس حولى يرمون النقود المعدنية داخلها ثم يتمنون الأمنيات على أمل أن تتحقق كما يعتقد الإيطاليون. رحلة رأيت خلالها أيضاً المعبد التاريخى «بانثيون» الذى يعنى معبد كل الآلهة. وغيرها من معالم روما العديدة، بالإضافة لتذوقى أنواع البيتزا وأصناف المكرونة داخل المطاعم الإيطالية فى الشوارع المختلفة.
ذكريات عدة لا تُنسى فى رحلة قمت بها منذ سنوات، وأتمنى تكرارها، ولكن أكثر ما أتذكره فيها مشهد وقوف المئات أمام مسلة فى ساحة سان جيوفانى بروما، حينها سمعت أحدهم يقول بلغة إنجليزية، وهو يلوح بيديه ناحية المسلة الكبيرة التى أمامنا فى منتصف الساحة: «إنها فرعونية، ليست إيطالية» جملة أتذكرها دائماً ولا أنساها أبداً.
وقتها تأملت ما يدور حولى بفضول ودهشة، حيث وقف الجميع احتراماً وإجلالاً لعظمتها وجمالها وتاريخها، يتفحصونها جيداً وينظرون لها نظرات الحب والإعجاب والتقدير، ويتسابقون على التقاط الصور التذكارية معها ولها.
هى المسلة الفرعونية الأشهر فى روما «لاتيران» أكبر مسلة مصرية قديمة فى العالم، وهى أيضاً أطول مسلة فى إيطاليا والتى أنشأها تحتمس الثالث وأتم بناءها تحتمس الرابع، وتم نقلها إلى الإسكندرية بأمر من قسطنطين الأول عام ٣٣٠ ميلادياً.
حتى نقل قنسطانطيوس الثانى، ابن قسطنطين الأول، مسلة لاتيران من الإسكندرية إلى روما عام ٣٥٧ ميلادياً، لتكون موجودة الآن بالقرب من قصر لاتيران.
فكرت فى رحلة مسلة عظيمة ومهيبة من مصر إلى إيطاليا بلا عودة، والتقاط الصور لها وللناس الذين وقعوا فى حبها، ووثقت اللحظات التى لا أنساها أبداً بالصور والفيديو والكتابة.. وعلى الرغم من سعادتى بحكايات الناس من جميع أنحاء العالم عن عظمة المصريين القدماء ودقتهم وذكائهم وحضارتهم، إلا أننى وقتها حزنت بسبب عدم وجود هذا الإبداع المدهش داخل الأراضى المصرية فى قلب إحدى مدنها.
ولاتيران ليست المسلة المصرية الوحيدة فى إيطاليا، يوجد مثلها عدد من المسلات الفرعونية الأخرى بعدة ميادين بالعاصمة الإيطالية، أربع منها تم بناؤها فى عهد رمسيس الثانى وهى «فلامينيو» الموجودة بساحة بياتزا ديل بوبولو، وأحضرها أغسطس قيصر من هليوبوليس إلى روما.
وأيضاً مسلات «ماتشوتيو»، و«دوجالى»، و«ماتيانو»، وأيضاً مسلة «سولارى» التى شيدها الملك بسمتيك فى هليوبوليس، وأحضرها أغسطس الأول إلى روما ومكانها حالياً بجانب قصر مونتيتشيتوريو، أما مسلة «مينيرفيو» فبناها الملك أبريس وموقعها الحالى سانتا ماريا سوبرا بروما.
وفى نفس رحلة إيطاليا، قررت دخول أصغر دولة فى العالم، الفاتيكان الموجودة داخل قلب روما، وبعد أن عبرت أسوارها وقفت فى طابور طويل ينتهى ببوابات إلكترونية، لنعبر من خلالها إلى أصغر دولة فى العالم، وكان لا يشغل وقت الواقفين خلف السور الحديدى، بسبب عمليات التفتيش، والكشف على الباسبور، إلا مشاهدة أهم ما يميز الساحة أمامهم، المسلة الفرعونية الكبيرة الموجود الصليب أعلاها.. وترجع إلى زمن «أمنحتب الثانى»، وأخذها من مصر الإمبراطور «كاليغولا» عام 37 ميلادياً!
حينها وقفت مدهوشاً، أنظر حولى بمشاعر متخبطة، حيرة وحب وتفكير، فبجانبى مواطنون من جنسيات وديانات مختلفة، أمامى مسلة مصرية عريقة، وحرس سويسرى يقوم بحراسة دولة الفاتيكان الأصغر فى العالم، الموجودة فى قلب روما عاصمة إيطاليا! كانت آخر ليلة فى الرحلة، بعدها عدت إلى القاهرة وأنا أقلب فى الصور التى التقطتها، وأفكر فى المسلات المصرية التى تزين شوارع روما وأرض الفاتيكان.