التصريحات الخطيرة التى قالها مايكل هايدن، رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق، لصحيفة فرنسية حول رؤيته للأوضاع الاستثنائية التى تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وما ذكره حول سقوط اتفاقيات سايكس بيكو للعام 1916 وتوقعاته باختفاء دولتى العراق وسوريا ومصير صعب للبنان، تحتاج منا بعض التفكير والكثير من الحذر. فمهارات الرجل وخبرته فى رئاسة أكبر شبكة تجسس وجمع معلومات فى العالم لعدة سنوات ومن قبل رئاسته أجهزة مخابرات تتبع القوات المسلحة الأمريكية، ثم عمله الراهن كمستشار لواحدة من كبريات المجموعات الصناعية الأمريكية من شأنها أن تجعل رؤيته ذات أهمية خاصة لصانعى القرار الأمريكيين، والتى بدورها يمكن أن تتحول إلى سياسات تطبق على الأرض. والأرض هنا هى التى تعنينا لأنها بلادنا العربية التى تشهد أسوأ كوابيسها وهى أن يختفى بعضها من الخريطة السياسية الجغرافية التى يقترب عمرها الآن من مائة عام.
وبعيداً عن أى صدمة يمكن أن يستشعرها المراقب والمحلل العربى، فإن الوضع فى كل من سوريا والعراق يقترب بالفعل من انهيار الدولة بمفهومها التقليدى. ويَحار المرء فى تعريف ما يجرى على الأرض السورية وفى تحديد القوى الرئيسية الفاعلة على أجزاء هنا أو هناك فى سوريا، فالتحالفات بين القوى الفاعلة متغيرة بطريقة سريعة للغاية، كما أن الانتصارات والانكسارات تحدث بسرعة البرق لكل القوى المتحاربة تقريباً، ولا يمكن للمرء أن يرى ضوءاً فى نهاية النفق يساعده على الاحتفاظ بقدر من الأمل فى أن تبقى سوريا البلد والشعب كما يُفترض أن يكون، فضلاً عن أن متغير تنظيم «داعش» الإرهابى الذى فرض نفسه على أجزاء متصلة من الأراضى السورية والعراقية، ويعتبرها نواة لدولة قادرة على التمدد فى الجوار وكسر الحدود رغم كل الضربات العسكرية التى يتعرض لها، له نتائجه الخطيرة.
فكرة الدولة تقوم أساساً على وجود سلطة مركزية تمارس سلطانها السياسى والمعنوى والقانونى على مساحة من الأرض وشعب يدين لهذه السلطة المركزية، إضافة إلى تمتعها بقبول ومشروعية من السلطات المركزية الأخرى أو الدول الأخرى فى العالم. ولعل هذا التعريف يساعد على تبيان أن فكرة الدولة أصلاً باتت غير موجودة فى أجزاء من سوريا والعراق، وأنه رغم وجود سلطة مركزية فى بغداد ودمشق تعترف بهما سلطات مركزية أخرى ومنظمات دولية، فإن الواقع على الأرض يكشف عن وجود سلطات شبه مركزية تمارس سلطانها على أجزاء من إقليم الدولة وهى فى صراع من أجل إسقاط السلطة المركزية الأم من جانب وإسقاط السلطات شبه المركزية للقوى المنافسة من جانب آخر. وأسماء هذه السلطات شبه المركزية على أجزاء من الإقليم متعددة ولا يهم إن كانت تنتمى إلى الفصيل الكبير نفسه، فـ«داعش» يرفع شعار دولة الخلافة الإسلامية، وكذلك تفعل قوى أخرى مثل أجناد الشام والنصرة وأحرار الإسلام وغيرها كثير، وجميعهم يكفرون بعضهم بعضاً ويتصارعون كثيراً من أجل قضم مزيد من الأرض.
يزداد الوضع تعقيداً فى التعامل الدولى والإقليمى مع الوضع السورى، إذ تتعدد الخيارات بطريقة متناقضة بأقصى ما يمكن. فالقوى الدولية والإقليمية الأكثر انخراطاً فى الحالة السورية تتحدث عن حل سلمى بشروط أو بغير شروط وترسل فى الآن نفسه أسلحة وأفراد وتدعم فصائل وميليشيات فى مواجهة فصائل أخرى وفى مواجهة السلطة المركزية فى دمشق، وتخلط بين خطر «داعش» واليأس من نظام الأسد، بل وتهدد كما فعلت تركيا باجتياح الأراضى السورية لمنع قيام كيانات دولية جديدة تخص الأكراد تحديداً، وهو ما يعكس غياب الرؤية التوافقية الدولية والإقليمية حول مصير سوريا كدولة وككيان إقليمى محدد، وبما يسمح للفصائل والمنظمات المُعادية أن تحصل على مساحة زمنية أكبر توطد فيها نفوذها وسطوتها فى المناطق التى سيطرت عليها.
لا تختلف مفردات الوضع العراقى كثيراً عن مفردات الحالة السورية، بل إن حالة التقسيم الفعلى تبدو أكثر وضوحاً، ولا يقتصر الأمر على إقليم كردستان وحسب، المدعوم بالدستور العراقى، بل هناك حالات لأقاليم فى طور التشكيل بعد أن خرجت من عباءة السلطة المركزية فى بغداد، بعضها تحت سطوة «داعش» وبعضها تحت سطوة ميليشيات شيعية مدعومة إيرانياً، والصنف الثالث إقليم أو اثنان للسنة العراقيين فى الأنبار تحديداً قيد التشكل، ويسعى رموزه للحصول على أسلحة ودعم من واشنطن دون المرور على حكومة بغداد أسوة بما يجرى مع إقليم كردستان، وهناك توجه فى داخل البيت الأبيض لدعم إقليم لسنة العراق، وتبدو المسألة فى توقيت الإفصاح الكامل عن هذا التوجه.
وفى كلتا الحالتين فإن الصراع الطائفى أصبح حقيقة دامغة، وفى كل يوم يزداد الوضع سوءاً، ويزداد معها صعوبة تعامل أبناء كل طائفة مع الطوائف الأخرى على قاعدة المواطنة والمساواة وعلى قاعدة الانتماء لوطن ودولة واحدة، وهنا تتمثل أكبر التعقيدات أمام أى حل سياسى توافقى لخروج البلدين من الكارثة التى تحيط بهما. والأمر على هذا النحو يشكل انتكاسة خطيرة لكل أصحاب الرؤى العروبية والقومية، ورغم أن السياسة الأمريكية تتحمل النصيب الأكبر من مسئولية إغراق كلا البلدين العربيين فى مستنقع الطائفية البغيضة، فهناك مسئولية موازية على القيادات والرموز الدينية والسياسية فى العراق وسوريا لتوظيفهما الطائفية للحصول على مكاسب وقتية، تحولت بعد ذلك إلى مأزق وورطة كبرى أغرقت الجميع. ولم يعد الأمر يتعلق بقناعات دينية ومذهبية بل بمصالح وأموال ونفوذ وامتدادات خارجية تؤدى جميعها إلى تفكيك كيان الدولة وتحطيم قدرته على البقاء.
والسؤال الذى يطرح نفسه يتعلق بمدى قدرة المنطقة العربية على تحمل اختفاء بلدين عربيين كبيرين، وظهور كيانات جديدة ذات طابع قزمى سوف تتصارع فيما بينها لعقود طويلة مقبلة، فضلاً عن قابلية دول أخرى للعدوى سواء الطائفية أو الانقسام الإقليمى؟ إنه سؤال الساعة، ومع ذلك لا نجد من يسعى لوضع إجابة محددة، ربما تكون دوائر الحكم والمعلومات فى بعض البلدان العربية تفحص وتحلل وتضع بعض الخيارات للتعامل مع هذه الاحتمالات الكارثية، وربما العكس تماماً. وإذا كان هناك من محاولة جادة لوقف التدهور أو وضع آليات عربية لوقف هذا التدهور كمرحلة أولى ثم علاج الكارثة كمرحلة ثانية، فأتصور أن القاهرة والرياض والجزائر والرباط عليهم البدء فى حوار جاد وصريح ولو غير معلن حول مصير الأمة العربية انطلاقاً من تحديد مصير كل من العراق وسوريا، فهل يفعلون؟