تشهد العلاقات الإسرائيلية الأمريكية الآن توتراً يعيد للأذهان ما حدث سابقاً بين إسرائيل ومصر، وفى كلتا الحالتين، وجّهت إسرائيل اتهامات مبطنة بالتلاعب فى مسودة اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
ففى المرة الأولى، اتهمت إسرائيل مصر بتغيير النسخة المقدمة لكل من حماس وإسرائيل والولايات المتحدة. والآن عادت تكرر نفس الادعاء، ولكن هذه المرة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
أعلنت إسرائيل أن الاقتراح الذى أعلنه الرئيس الأمريكى جو بايدن لم يعكس موقفها بالكامل، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة «الوقف التام لإطلاق النار».
هذا الموقف أثار ردود فعل سريعة من البيت الأبيض، الذى أكد أن الاقتراح المقدم كان اقتراحاً إسرائيلياً بالكامل، وأن الرئيس بايدن عرضه بشكل أمين ودقيق. وأوضح المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، جون كيربى، أن البيت الأبيض أبلغ إسرائيل مسبقاً بأن خطاب بايدن يمثل الاقتراح الإسرائيلى بأمانة.
دلالات الاتهام وتبرئة مصر
هذه الاتهامات الموجهة للولايات المتحدة تحمل دلالات متعددة، منها أنها تعكس بشكل غير مباشر تبرئة مصر من الاتهام الذى وجهته إسرائيل سابقاً وشنت بسببه هجوماً إعلامياً دولياً.
عند اتهام مصر، عاونت إسرائيل فى حملتها الإعلامية شبكة «سى إن إن»، ما أعطى الاتهامات وزناً إعلامياً كبيراً. ولكن بات من الواضح الآن أن الاتهام بالتلاعب قد يكون استراتيجية تتبعها إسرائيل للتنصل من مسئولياتها والتزاماتها فى المفاوضات.
أسباب سياسية داخلية
لماذا تتبنى إسرائيل هذه السياسة التى قد تضر بعلاقاتها الدولية مع مصر ومع الولايات المتحدة الأمريكية؟ الإجابة قد تكمن فى السياسة الداخلية الإسرائيلية، فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، المعروف بمواقفه المتشددة، يواجه ضغوطاً كبيرة من اليمين المتطرف فى الداخل الإسرائيلى.
هؤلاء المتشددون يعارضون بشدة أى وقف لإطلاق النار ويصرون على استمرار الحرب لتحقيق أهدافهم المعلنة فى تدمير حماس كقوة عسكرية وحاكمة.
فى هذا السياق، يبدو أن «نتنياهو» يسعى إلى إدارة الموقف بطريقة تسمح له بتمرير مسألة الوقف التام لإطلاق النار تدريجياً دون إثارة أزمة داخلية كبيرة.
إذ إنّه من خلال اتهام الولايات المتحدة بالتلاعب، يمكنه تهدئة المتشددين فى الداخل والظهور بمظهر الزعيم الذى لا يتنازل عن مواقفه بسهولة.
وفى الوقت نفسه، يسعى لطمأنة أهالى المجندين والمحتجزين بأن الحكومة تبذل كل جهدها لإنهاء الحرب بأقل خسائر ممكنة.
وعلى ذلك تتوالى التصريحات والتقارير الإعلامية التى تؤكد سياسة إسرائيل فى التراجع عن اقتراحاتها بشكل علنى، ففى تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» بتاريخ 3 يونيو 2024، أقر مكتب «نتنياهو» بأن بيان بايدن يعكس اقتراحاً إسرائيلياً، لكنه أشار إلى أن الرئيس الأمريكى لم يعكس موقف إسرائيل بالكامل.
وأكد مكتب «نتنياهو» أن إسرائيل ستواصل السعى إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين فى غزة وتدمير حماس كقوة عسكرية وحاكمة.
من ناحية أخرى، نقلت قناة «كان 11» الإسرائيلية عن المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى كيربى قوله: «نحن ننتظر رد حماس.. يجب أن يقبلوا بالصفقة، ونحن على قناعة بأن خطاب بايدن يمثل بأمانة الاقتراح الإسرائيلى. البيت الأبيض أطلع إسرائيل على الخطاب مسبقاً».
كما أدلى «كيربى» بتصريحات أكثر من مرة تفيد بأن الاقتراح هو اقتراح إسرائيلى تام وتم عرضه من قبل الرئيس بايدن بدقة.
فى النهاية، تبدو السياسة الإسرائيلية القائمة على الاتهام والتراجع عن المسئوليات جزءاً من استراتيجية معقدة لإدارة الضغوط الداخلية والخارجية.
بينما قد تضر هذه السياسة بعلاقات إسرائيل مع حلفائها التقليديين، مثل الولايات المتحدة، إلا أنها تعكس محاولات «نتنياهو» للتوازن بين مطالب المتشددين ومطالب العقلاء فى الداخل الإسرائيلى.
ومع استمرار هذا النهج، يبقى السؤال مطروحاً: إلى متى يمكن لإسرائيل أن تستمر فى هذه اللعبة الدبلوماسية دون أن تدفع ثمنها على الصعيد الدولى؟
مخاطر مراوغة إسرائيل مع كل مسودة اتفاق تتجاوز حدود العلاقات الثنائية، مهددة بتقويض الثقة الدولية فيها وفى العملية التفاوضية بأكملها، فعندما تتهم إسرائيل مصر بالتلاعب فى مسودة الاتفاق ثم تكرر نفس الاتهامات مع الولايات المتحدة، فإنها تُظهر بوضوح رغبتها فى التنصل من المسئوليات والالتزامات المتفق عليها.
هذا النهج يضر بعلاقاتها مع حلفائها ويضعف مصداقيتها على الساحة الدولية، وفى ظل هذه المراوغات، تتأكد الآن براءة وبراعة جهاز المخابرات المصرى، الذى أظهر قدرته على صياغة مسودات متوازنة تهدف إلى إنهاء الحرب وتحقيق السلام.
إن استمرار إسرائيل فى هذه السياسات قد يدفع المجتمع الدولى إلى إعادة تقييم موقفه من إسرائيل التى باتت تقف حائلاً ضد الوصول إلى حلول دائمة للصراع فى المنطقة.