لعبت الجغرافيا السياسية دورًا هامًا في الصراعات الإقليمية الدائرة في المنطقة، و تركزت أغلب الخطط الممنهجة منذ الثمانينات على حصار الدول المستهدفة بهدف الانقضاض عليها، وإثارة الاضطرابات والقلاقل باستخدام نظرية شد الأطراف عن طريق استغلال سكان المناطق الحدودية ثم الانقضاض على قلب الدولة المستهدفة.
التحركات المصرية السعودية الأخيرة، أكدت وعي النظامين بأبعاد وأهمية الجغرافية في معارك الوجود، باتخاذ قرار تشييد جسر للربط بين البلدين، فلم يكن قرار الملك سلمان والرئيس السيسي بإنشاء الجسر قرار اقتصاديًا بحتًا فقط، ليصب في صالح زيادة الدعم التجاري بين البلدين، وإنما هناك أسباب أخرى تخص النسق الدفاعي لمواجهة المؤامرة الكبرى لتدمير الدول العربية، تماما كما سبق وأن شيدت المملكة جسر الملك فهد لربط البحرين بالمملكة بعد محاولة ابتلاعها من قبل طهران.
في الطريق إلى سايكس بيكو الأولى كانت دائما مفاوضات جلاء بريطانيا عن مصر تتحطم دائما على صخرة انفصال مصر عن السودان، حتى تم الانفصال، وانتهى الأمر حاليا إلى تقسيم السودان إلى دولتين اثنتين وربما تكشف الأيام المقبلة عن تقسيمات جديدة، وهو ما كان دافعًا عربيا لمؤزارة النظام السوداني في محنته الأخيرة، بغض النظر عن توجهاته وسياساته، تحسبًا للتداعيات المحتملة للفوضى، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي.
لم تكن سايكس بيكو صناعة آلهة الخير، وإنما رسمتها أيادي الشر التي تضمر للمنطقة كل سوء، حيث تعمدت المعاهدة تقسيم الدول العربية بطريقة تسمح بإثارة اضطرابات ونزعات الانفصال إذا ما مدت الدول الغربية يدها لتعبث في مناطق بعينها داخل كل دولة، ففي عهد عبد الناصر بعد صراع سياسي تحدى خلاله المجتمع الدولي، كانت السودان تغرد بعيدا عن القاهرة، كما تعمدت المعاهدة تشتيت الأكراد بين دول ثلاث، على رأسها سوريا وتركيا والعراق إضافة إلى الأحواز العربية والأمازيغ في الجزائر، والبوليساريو في المغرب، زد على ذلك تنمية ودعم نشر المذهبية وتعميق الخلافات العرقية، ووصل الأمر إلى ظهور بوادر بمطالب انفصالية لأقاليم بعينها في بعض الدول، بدعم من القوى الدولية الساعية إلى تأزيم الوضع في المنطقة.
أسباب ما آل إليه الوضع العربي هو شكل الدولة العربية المركزية، الذي يبدو وكأنه يتعرض لأزمة كبيرة، رغم أنها مثلت نموذجا ممسكا بأدوات الحكم، إذ يبدو النظام المركزي الذي ظل مستوعبا للاختلافات العرقية والمذهبية في العالم العربي وقد فقد آلياته شيئا فشيئا مع انحسار مفهوم الوطن الواحد، وتنامي الشعور لدى الأقليات العرقية والدينية بالتهميش المستقبلي من الأنظمة وكان لملف حقوق الانسان الذي أداره البيت الأبيض تأثير كبير على الأنظمة الحاكمة للدول المركزية في الشرق الأوسط.
الجغرافية السياسية هي اللاعب الرئيسي الأن في المنطقة حيث ترتكز المخططات على تعظيم شأن الدولة الإسرائيلية عن طريق تطبيق النظام العالمي الجديد، الذي يفضي إلى ثلاثة أهداف رئيسية أولها القضاء على فكر الدولة الوطنية الموحدة، واختراق العقول ثقافيا، ونشر الفكر النفعي الذي يتخطى القوميات خاصة في الدول العربية، وهذا يعني بالطبع استهداف سيادة الدول وإثارة الاضطرابات على حدودها لتفقد السيطرة على حركة المال والتجارة، إلى جانب التركيز على دور الإعلام في تسطيح مفهوم الوطنية وتنمية العداء تجاه الأنظمة الحاكمة وبالتالي تفكك المجتمعات وفقدانها القدرة على التماسك بالتزامن مع تقوية نزعات الانتماء إلى ما هو خارج حدود الدولة سواء كان دينيا أو مذهبيا أو عرقيا.
مشروع الجسر المصري السعودي لن يقضي على مخططات إعادة تقسيم المنطقة وتجزأتها، فالأمر يحتاج إلى جهود أكبر، وإن كان يقضي أيضا على أحلام إسرائيل في أن تكون مركزًا للثقل بين أسيا وأفريقيا وأوروبا بعد إنشاء طريق ساحلي يربطها بالشمال الأفريقي، فضلا عن أن المشروع يعد ردا قاسيا على التحركات الصهيونية في أثيوبيا ودعم الموساد عملية إنشاء سد النهضة لمحاصرة مصر من كل الجهات، ما دعا مسئولون إسرائيليون إلى الإعلان عن قلقهم إزاء هذا المشروع الذي يهدد الأمن القومي الإسرائيلي، ووصف بعضهم القرار بأنه بمثابة إعلان حرب.
رأس الأفعي المدبرة للمخططات التآمرية على الوطن العربي، تلقت ضربة قاضية بعد الصحوة القاهرية إثر خلع الإخوان من حكم مصر بإرادة شعبية، بالتزامن مع بداية تحرك الأنظمة الواعية ضمن أطر متوازنة لمواجهة الخطط الساعية للنيل من العرب، بمشروعات اقتصادية ضخمة تذوب فيه الحدود الدولية نوعًا ما، فالإعلان المصري السعودي، أعاد ملف مخطط التقسيم إلى الأدراج مرة ثانية لحين تهيئة المنطقة في المستقبل القريب، لتنفيذ هذا المخطط الماكر .