مسجد عمر مكرم..من هنا تخرج الجنازات.."قاتل" و "مقتول"وبينهما "ثورة"

مسجد عمر مكرم..من هنا تخرج الجنازات.."قاتل" و "مقتول"وبينهما "ثورة"
يحوطه الفراغ من جوانبه الأربعة، شجرة ملقاة على الأرض أمام مدخله تنعى حظ ذلك المسجد الشامخ وسط ميدان التحرير بعد أن فقد «حظوته»، وابتعدت عنه تلك اللافتات البيضاء التى تشير إلى «عزاء الوزير..»، فجفاه الأغنياء، بعد أن تحول مسجد عمر مكرم من مسجد ودار مناسبات شهير، إلى شاهد عيان الثورة.
على يمين المصلى غرفة مغلقة تفوح منها رائحة الموت، فهنا المستشفى الميدانى ومخزن الأدوية، وأعلاه يعيد للذاكرة مشهد التعذيب على سطحه لمن اشتبه فيهم «الطرف الثانى»، رصيفه الذى افترشه «السجاد الأحمر» ذات يوم، خلع بلاطه بالأمس القريب ليكون سلاح «الضعفاء» فى مواجهة من مروا عليه «معزين».
بقايا السور الحجرى والأسلاك الشائكة لم تزل فى مكانها على بُعد خطوات منه، ولكنها لم تقوَ على مواجهة «حضرة الولى»، فتحطمت على صخرة «الحظوة النبوية» كما تحكى الحاجة نادية «ده ولى من أولياء الله الصالحين، زى سيدنا الحسين والسيدة زينب وأهل البيت، فيه حد يقدر يحط سور قدامه». لم تدرس الحاجة نادية التاريخ، ولم تقرأ فيه كتباً، لكنها عرفت الجامع «ونيساً» ترتاح لوجودها بجانبه، وتطمئن لجلوسها فى رحابه، لا تبعدها عنه سوى تلك الخطوات الليلية، حين تغير مسند ظهرها من حائطه الجرانيت إلى هواء ميدان التحرير لتكمل بيع «مناديلها الورقية» كى تؤمن إيجار شقتها الشهرى.[Image_2]
السيدة الخمسينية «صاحبة المكان»، كما تصف نفسها، لا تعرف أن هذا الذى سمى المسجد باسمه لا يختلف تاريخه عن تاريخنا الحالى، فصاحب العمامة كان قائداً لحركة شعبية لا تختلف كثيراً عن «ثورة يناير»، قادها ضد ظلم واستبداد كل من «إبراهيم بك ومراد بك»، المملوكين اللذين كانا يحكمان مصر مناصفة أواخر القرن الثامن عشر، وقتها رفع عمر مكرم فى مواجهتهما لواء الحاكم العادل منقذ الفقراء مطبق شرع الله، وعندما وقعت القاهرة فى يد «الفرنساوية» الذين هبطوا على المدينة مع قائدهم نابليون بونابرت، فضل مكرم الهروب من مصر ثم عاد إليها متظاهراً بالاعتزال وفى الحقيقة كان يعد العدة لثورة القاهرة الثانية، وبعد رحيل الفرنسيين واصل الجهاد ضد حملة فريزر الإنجليزية التى كانت تهدف لاحتلال مصر، مطالباً المصريين بـ«حمل السلاح، وترك الدروس، والتأهب للجهاد»، وحين هرب فريزر اجتمع عمر مكرم مع المشايخ المصريين فى «دار الحكمة» وقرروا عزل «الوالى خورشيد» وتولية «محمد على» بعد أخذ كافة الضمانات والتعهدات التى سرعان ما انقلب عليها «محمد على»، ونفى الشيخ الجليل إلى دمياط حيث مات هناك.
كل هذا التاريخ عن «عمر مكرم» لا تعرف «الحاجة نادية» عنه شيئاً، يكفيها ما تعرفه عن البرادعى وحمدين ومرسى وانتخابات الرئاسة وتعهدات «ماومنت»، فلسانها لا يستطيع نطق «فيرمونت». «الحاجة نادية» كما يعرفها رواد عمر مكرم منذ 35 عاماً فى نفس جلستها وذات المناديل والسبح والبخور عرفت «عمر مكرم» قبل أن تحمل حوائطه على مداخله ومخارجه لافتة «الرجاء الحفاظ على متعلقاتك الشخصية فالمسجد غير مسئول عنها»، راحت رائحة المسك فى استقبال علية القوم معزين، وبقيت رائحة الدم وذكريات الموت تخبرها دوماً أن من هنا يخرج إلى غير عودة «قاتل ومقتول».
«فاكرة لما بهوات الشرطة كان بيموت ليهم قريب ولا بعيد، كانت الدنيا بتنقلب هنا، وصف الدبابير كان واصل للمترو، سبحان مغير الأحوال دلوقتى يخافوا يعدوا من جنبه» تتذكر الحاجة نادية دعوتها على باب عمر مكرم قبل ليلة من الثورة حين هاجمها شرطى آخذاً شنطة علاجها «حسبى الله ونعم الوكيل، يا رب انت بس اللى قادر تقلب الموازين»، أطلقت الدعوة، ولم تكن تعرف، كما تقول، أن أبواب السماء فُتحت لها مع أذان المغرب فى عمر مكرم، عاد إليها الجندى مرة أخرى مصلياً وراكعاً لله فى حضرة «صاحب الكرامات» فتقدم إليها: «مسامحانى؟، ربنا يعفى عنا جميعاً»، قالتها ونظرت إلى السماء: «جندك معايا يا رب».
جنازة الشهيد «محمد الجندى» هى آخر جنازة شهدتها الحاجة نادية، وعانت بعدها أياماً لم تستطع أن تعود للميدان «تعبت قوى من الموت، كل مرة بشوف شباب زى الورد هو اللى بيموت بقول ياريتنى كنت أنا ولّا العواجيز اللى ملوا البلد».
أخبار متعلقة:
"وسط البلد" الذي وهب الحياة لجسد الوطن
"التحرير"..ثكنة عسكرية..تحولت إلي "رمز الحرية والكرامة"
مقهي "زهرة البستان".."استراحة محارب"للمصابين
جرافيتى «جنزير» والذين معه.. الثورة هتفضل حية
«سيمون بوليفار».. قاعدة حجرية منزوعة الملامح
التحرير ومحمد محمود وقصر العيني..شوارع علي خط النار
«تاون هاوس».. مكتبة ومسرح ومعرض دائم فى قلب القاهرة
شباب وفتيات علي كورنيش النيل وداخل البواخر..أما الثورة فلها رب يحميها