"التحرير"..ثكنة عسكرية..تحولت إلي "رمز الحرية والكرامة"

كتب: سماح عبدالعاطى:

"التحرير"..ثكنة عسكرية..تحولت إلي "رمز الحرية والكرامة"

"التحرير"..ثكنة عسكرية..تحولت إلي "رمز الحرية والكرامة"

فى المساحة التى يحتلها الميدان تتجسد العاصمة المصرية بكل ما فيها ومن فيها. هنا تتركز الدولة بوزاراتها وبرلمانها ومجلس وزرائها وقلبها الإدارى والاقتصادى والتجارى والسياحى، هنا تتراص المحلات التجارية ومطاعم الوجبات السريعة والمقاهى العتيقة والكافيهات الحديثة إلى جوار شركات السياحة والصرافة. من الميدان تتفرع مجموعة من أهم شوارع العاصمة؛ بداية من «قصر العينى»، مروراً بـ«محمد محمود»، و«التحرير»، و«طلعت حرب»، وليس انتهاءً بشارع قصر النيل، على أحد أضلاع الميدان تصطف عمارات وسط البلد بطابعها المعمارى المميز، وفى الضلع المواجه يتواصل العمل فى مشروع الجراج متعدد الطوابق الذى يعطل جانباً كبيراً من الميدان منذ وقت طويل، فيما يطل من خلفه فندق النيل هيلتون الذى تجرى فيه هو الآخر عمليات التجديد والترميم على قدم وساق. فى جانب من الميدان يحتل مبنى الجامعة الأمريكية بالقاهرة مساحة لا يستهان بها، كما يمتد مبنى جامعة الدول العربية على مساحة أخرى تنتحى هذه المرة ركناً من الميدان، يظهر جامع عمر مكرم بمئذنته العالية، ويطل المتحف المصرى بقبته المميزة، يثبت تمثال عمر مكرم بالقرب من مسجده، فيما يرتكز تمثال الفريق عبدالمنعم رياض فى زاوية بعيدة من ميدان التحرير. مع الثورة المصرية أضاف الميدان لنفسه معانى جديدة، بعضها كان مخبوءاً بالفعل تحت ركام السنوات الكثيرة التى تعاقبت عليه منذ إنشائه قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً، والبعض الآخر عرفه الميدان وتعرف عليه مع الملايين التى أدمنت الاعتصام والتظاهر فى قلبه، شىء ما جعل من تلك المساحة غير المنتظمة الشكل جاذبة لكل صاحب مظلمة، أو مطلب، ربما منذ سنوات طويلة، ولعل السبب فى ذلك يعود إلى أنها كانت تضم بين جنباتها مقراً لإدارة الاحتلال البريطانى الذى حل على مصر نهايات القرن قبل الماضى، تلك الإدارة التى أنشأت لجنودها ثكنات عسكرية فى المنطقة التى تشغلها جامعة الدول العربية حالياً، ومنحتها اسم «ثكنات قصر النيل»، وهى الثكنات التى مثلت إغراءً كبيراً للمصريين خلال الفترة التى وجدت فيها لأن يعلنوا أمامها رفضهم للوجود البريطانى على أراضيهم، رغم ما يمكن أن ينالهم من قوات الاحتلال من قتل وسجن وتشريد، وهو الأمر الذى يبدو أنه تواصل طوال الفترة التى ظل فيها الاحتلال. سحب الاحتلال أقدام المصريين إذن إلى ميدان التحرير، سواء متظاهرين ضده أو حتى عابرين للتظاهر أمام مؤسسات الحكومة، وبيت سعد زغلول، الزعيم الذى توحدت خلفه الأمة المصرية بدايات القرن العشرين، والذى يقع بالقرب من المنطقة، عرف المصريون طريق الاحتجاج والتظاهر فلم يحيدوا عنه فى مناسبات قومية شهيرة، سواء فى ثورة عام 1919، أو مظاهرات الطلبة فى الثلاثينات ضد حكومة إسماعيل صدقى التى عطلت دستور 23، مروراً بمظاهرات الطلبة فى عام 1946، التى جرت فى أثنائها مذبحة كوبرى عباس، وكذلك مظاهراتهم فى عام 1972 لمطالبة السادات بتحرير الأرض، وهى المظاهرات التى أرّخها الشاعر الراحل أمل دنقل فى واحدة من أروع قصائده المعنونة بـ«الكعكة الحجرية»، وبالطبع ليس انتهاء بثورة يناير 2011، التى جرت أجزاء كثيرة من فصولها فى الميدان وما حوله. بشوارعها القريبة من الميدان لم تسلم منطقة وسط البلد من رياح الثورة العاتية، تلك المنطقة الهادئة التى تغفو تماماً فى المساء مع انتهاء ساعات الدوام الحكومى وانصراف الموظفين الحكوميين إلى منازلهم، أضفت عليها الثورة معانى جديدة، على الأقل لأنها جعلتها على الدوام منطقة مشتعلة تصحو وتنام على طلقات الخرطوش والقنابل المسيلة للدموع، وجنازات الشهداء التى تنطلق من مسجد عمر مكرم، وتجتاز وسط البلد من وإلى الميدان، اكتسبت المنطقة روحاً جديدة مع الروح التى نفختها الثورة فى كل شىء فى مصر، لم تعد مقاهيها مجرد أماكن يتجمع عليها الشباب والشابات ليشاهدوا مباريات كرة القدم ويدخنوا الشيشة ويحتسوا الشاى، تحولت إلى استراحات لمحاربين أدمنوا التظاهر فى ميدان التحرير، واستنشاق الغاز المسيل للدموع، وتلقى طلقات الخرطوش فى الجسد والعيون، الميادين نفسها تغيرت للأبد؛ «سيمون بوليفار»، الهادئ النظيف، لم يعد كما كان، خاصة بعد اشتباكات الشرطة الأخيرة مع المتظاهرين خلال شهر نوفمبر الماضى، تحول الميدان الأنيق بمنطقة جاردن سيتى إلى ساحة قتال متواصل بين الطرفين، نال صاحب التمثال بعضاً من رذاذها، حين كُسر السيف الذى يرتكز عليه، وراحت عنه قطعة الرخام التى دوّن عليها جانباً من تاريخه بعد أن خلعها المتظاهرون وكسروها ليقذفوا بها قوات الشرطة، فيما حمل تمثال طلعت حرب على عاتقه استقبال مسيرات لا حصر لها كانت تطوف بشوارع وسط البلد قبل أن تصل للتحرير، استقبل التمثال ملصقات الثورة فى هدوء تام، تماماً كما اعتاد على ذلك طيلة السنوات الستين التى قضاها فى مكانه يشرف على وسط البلد من على قاعدته الحجرية. على أن يوميات المنطقة لم تقتصر فقط على الثورة طوال العامين الماضيين، إذ استمرت الحياة عادية للغاية، حتى فى قلب ميدان التحرير، أو على مقربة منه، خاصة فى منطقة كورنيش النيل، هناك تصطف المراكب النيلية فى انتظار روادها من الفتيات والفتيان ممن يبحثون عن نزهة ليلية على أنغام الأغنيات الشعبية، يدور القتال على أشده فى ميدان التحرير بين قوات الشرطة أو الجيش وبين المتظاهرين، فيما أصوات الأغنيات الشعبية المنبعثة من مكبرات صوت مثبتة داخل المراكب السياحية ترتفع حتى تكاد تغطى على أصوات طلقات الخرطوش التى تنطلق بغير حساب. أخبار متعلقة: "وسط البلد" الذي وهب الحياة لجسد الوطن مقهي "زهرة البستان".."استراحة محارب"للمصابين جرافيتى «جنزير» والذين معه.. الثورة هتفضل حية «سيمون بوليفار».. قاعدة حجرية منزوعة الملامح مسجد عمر مكرم..من هنا تخرج الجنازات.."قاتل" و "مقتول"وبينهما "ثورة" التحرير ومحمد محمود وقصر العيني..شوارع علي خط النار «تاون هاوس».. مكتبة ومسرح ومعرض دائم فى قلب القاهرة شباب وفتيات علي كورنيش النيل وداخل البواخر..أما الثورة فلها رب يحميها