مقهي "زهرة البستان".."استراحة محارب"للمصابين

كتب: محمد على زيدان:

مقهي "زهرة البستان".."استراحة محارب"للمصابين

مقهي "زهرة البستان".."استراحة محارب"للمصابين

حين قرر الشعب أن ينتفض، لم يجد إلا «وسط البلد» مكاناً يحتضن الانتفاضة، تجمع الآلاف وبعد ساعات من قذف للقنابل المسيلة للدموع، كانوا يركضون إلى الشوارع الجانبية هرباً من الاختناق، حيث مقاهى وسط البلد، تلك بعبق الماضى، وبذكريات مظاهرات المثقفين فى عام 1972، يتوحدون على كراسى متهالكة، لكنها تقيض لهم الراحة بعد عناء، واحد من تلك المقاهى التى جلس فى باحتها الشباب والفتيات، يعود فى إنشائه إلى ما يقرب من 80 عاماً مضت، مُنحت اسم «زهرة البستان». للوصول لـ«زهرة البستان» قد تمر بشارع طلعت حرب، حيث تقابل مقهى جديداً من تلك التى تحمل تاريخاً حافلاً، المقهى هو «ريش» ذو الواجهة الزجاجية والحائط الرخامى البارد، الذى حوى بداخله أدباء مصر وشعراءها، فقد كان «ريش» لزمن، مستقر نجيب محفوظ ومستودع أصدقائه، المقاهى فى وسط البلد، كالقدم فى الإنسان، المكان الذى يحمل الجسد، فـ«ريش» و«زهرة البستان» وغيرهما، أماكن تحمل وسط البلد بكل فتارين المحلات والمطاعم القديمة والتماثيل المتناثرة والمساجد التاريخية.[Image_2] ما إن تلج لـ«زهرة البستان»، يشخص بصرك ناحية الكراسى المتراصة بلا ترتيب، فوضى المقهى المنظمة، كل مجموعة تأخذ كراسيها متحلقة زرافات، صانعة حلقات أشبه بحلقات المساجد، لكن هنا لا صوت يعلو فوق صوت كركرة الشيشة ونداءات النادل بأحدث الطلبات، والنقاشات التى لا تعرف موضوعاً محدداً، المثقفون يحبون ارتياد «الزهرة»، فيها روح تعين على تزجية الوقت، مثل الشاعر «زين العابدين فؤاد» الذى يقول إنه يفضل الجلوس دائماً فى هذا المكان، بين أصدقائه والشباب من الثوار، ولا يقتصر زبائن المقهى على المصريين فحسب، بل يرتاده عدد من الأجانب، تتنوع أنشطة الجالسين فى زهرة البستان بين «شاى» الاتفاق على العمل والتسلية بلعب الطاولة والدومينو، لا يعرف المقهى الفرق بين جنس ولون، الكل يتوسد كرسيه، ويتحلق حول مائدة معدنية صغيرة. اشتهر مقهى «زهرة البستان» بتجمع العديد من الأسماء اللامعة فى الأدب والثقافة والفن بخاصة من الكتاب الشبان الذين ينتهزون فرصة تجمع الأدباء الكبار بها حتى يعرضوا أعمالهم الأدبية عليهم، لعلهم يحظون بإشادة ترتقى بهم، وتوجههم للأفضل، حيث كان المقهى خلال عشرات السنوات ولا يزال، هو الملتقى الرسمى للعديد من الكتاب الشبان. عاطف سلامة، الرجل الأربعينى ذو البشرة السمراء الذى يخرج كل صباح من بيته بمنطقة شبرا الخيمة منذ أكثر من 28 عاماً، قاصداً المكان الذى أحبه وارتبط به ولا يستطيع مفارقته، يقول: «أنا حياتى كلها مرتبطة بالمكان هنا، أول شغل أشتغله فى حياتى كان فى زهرة البستان»، يسحب نفساً من سيجارته، فى نظرة يسترجع بها مشاهد من الماضى «كان من حوالى 15 سنة فى ناس كتير جميلة، عدد منهم مات وسابنا، كان لما واحد فيهم بيموت بحس إن فى حد من أهلى مات». يروى عاطف، كيف ارتبطت حياته منذ الشباب بزهرة البستان، حاكياً كيف كان يوم الثلاثاء مرتعاً لفنون الأدب، حيث تعقد ندوة ثقافية وشعرية، يتجمع فيها الأدباء والرسامون فى المقهى، يلقون أشعارهم ونصوصهم القصصية، ويعرضون آخر ما استجد من لوحاتهم الفنية. يقول إن الأمر لم يقتصر على كونه عاملاً ينثر الطلبات هنا وهناك، بس صار متذوقاً لما يصنعون، حيث بات مداوماً على معارض الفن التشكيلى، ويمكنه أن يدلو برأيه فى أى لوحة يراها. يجد عاطف، أن «زهرة البستان» ليس كمثله من المقاهى «الزبون اللى بيقعد على زهرة البستان ميعرفش يقعد على قهوة تانية، زهرة البستان ليها حالة خاصة». أيام الثورة الأوائل هى الأجمل فى حياة عاطف، يستعيد تلك الأيام قائلاً إنه قضى الثمانية عشر يوماً بين جدران المقهى، وقام بعمل لجنة شعبية لحماية شارع هدى شعراوى وصبرى أبوعلم. يتذكر يوم أن أعلن مبارك تنحيه عن الحكم، وكيف كان رواد المقهى يجلسون فى المقهى، وأعينهم تطفر بالدمع من فرط الفرحة، فارقوا المقهى بعد إلقاء البيان القصير، وهرولوا ناحية الميدان. «اليوم دا الوحيد اللى محاسبتش على المشاريب، ومكنتش زعلان». الحال فى المقهى تغير، المقهى جزء من مصر الكل، ما يصيب الوطن، ينعكس على الراقدين على الكراسى، يقول عاطف إن أبرز التحولات كانت فى قلة عدد العائلات التى تأتى للمكوث فى المقهى، وبات الشباب هم أهم الرواد. لم يكن «زهرة البستان» مجرد مقهى يستقبل رواده من الفنانين والمثقفين، والشباب ممن يلعبون الطاولة والدومينو، بل كان أشبه باستراحة محارب أتى من الميدان ليأخذ قسطاً من الراحة، ليعود مرة أخرى لميدان التحرير، ساحة المعركة. أخبار متعلقة: "وسط البلد" الذي وهب الحياة لجسد الوطن "التحرير"..ثكنة عسكرية..تحولت إلي "رمز الحرية والكرامة" جرافيتى «جنزير» والذين معه.. الثورة هتفضل حية «سيمون بوليفار».. قاعدة حجرية منزوعة الملامح مسجد عمر مكرم..من هنا تخرج الجنازات.."قاتل" و "مقتول"وبينهما "ثورة" التحرير ومحمد محمود وقصر العيني..شوارع علي خط النار «تاون هاوس».. مكتبة ومسرح ومعرض دائم فى قلب القاهرة شباب وفتيات علي كورنيش النيل وداخل البواخر..أما الثورة فلها رب يحميها