حكايات المنسيين في الحرب العالمية: ديسموند لم يحمل بندقية طوال المعركة

كتب: محمد علي حسن

حكايات المنسيين في الحرب العالمية: ديسموند لم يحمل بندقية طوال المعركة

حكايات المنسيين في الحرب العالمية: ديسموند لم يحمل بندقية طوال المعركة

لم يحلم الشاب ديسموند دوس، حين التحاقه بالخدمة فى الجيش الأمريكى أول أبريل عام 1942، أنه سيعود مرة أخرى إلى بلاده عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ويقف فى حديقة البيت الأبيض ليحصل على أعلى وسام للشجاعة فى الولايات المتحدة الأمريكية تقديراً لشجاعته خلف خطوط العدو، فمن بين 16 مليون مواطن أمريكى ارتدوا الزى العسكرى خلال الحرب حصل منهم 431 فقط على وسام الشرف من الكونجرس، من بينهم «دوس» الذى رفض حمل بندقية طوال مدة تجنيده بداية من معسكر التدريب حتى خوضه المعارك ضد اليابانيين، فكان سلاحه الوحيد هو الإيمان بالله.

«والدى كانت لديه فلسفته الخاصة فى الحياة التى اعتمدت على أربع ركائز أساسية وهى الحب والرحمة والمغفرة وتقبل جميع البشر بمحاسنهم وعيوبهم»، حسب حديث ديسموند جونيور، نجل المسعف الأمريكى «دوس»، لـ«الوطن»، الذى نشأ على الاستماع لقصص الحرب من والده ورفاقه فى المعارك، فكان وما زال «المعترض الضميرى» الأشهر فى تاريخ العسكرية الأمريكية والمسعف الأمهر فى الحرب العالمية الثانية، لكن بالنسبة له الأب الذى علمه حب الآخرين وتقبلهم ومسامحتهم حتى وإن وصل الأمر لتسببهم فى ألمه يوماً من الأيام، فالحب كان قيمة متأصلة عند «دوس» يستمد منه قوته لمجابهة الأزمات.

الهجوم اليابانى على الأسطول الأمريكى بميناء بيرل هاربر فى جزر هاواى، يعتبر بداية رحلة «دوس» مع العسكرية، حينها كان مجرد عامل بسيط فى حوض بناء السفن «نيوبورت» وكان القانون يسمح له بإمكانية تأجيل التجنيد استناداً إلى وظيفته المدنية، لكن الشاب العشرينى آنذاك أراد أن يكون ضمن أفراد الجيش الأمريكى وعلى استعداد للمخاطرة بحياته فى الخطوط الأمامية، حيث إن صورة أمهات ضحايا الجنود فى بيرل هاربر لم تفارق ذهنه أثناء إجراءات تسلم الجثث التى كانت معظمها مجرد أشلاء تناثرت على رصيف «بيرل هاربر» أو كانت طعاماً لأسماك المحيط الذى انعكس عليه اللونان الأحمر من الدماء والأسود جراء حطام السفن المحروقة.

يرى «دوس» الابن أن العلاقة بين والده والله كانت علاقة من نوع خاص قائمة على الحب والتسامح، لم يكن الأب يفكر فى المقابل، أما علاقته بالبشر فخصص لها قاعدة ذهبية وهى «من يقدم لك الإساءة عامله بلطف، فالله يرى أنك على صواب»، فالكتاب المقدس لم يفارقه طوال حياته وكان سلاحه الوحيد أثناء المعارك.

تقدم «دوس» للتجنيد طامحاً فى أن يصبح مسعفاً ليخفف آلام الجرحى، لا سيما أولئك الجنود الشباب الذين تركوا الأمهات فى منازلهم على أمل العودة مرة أخرى من ميادين القتال المشتعلة فى قارات العالم القديم، دون النظر إلى اللون أو العرق للإنسان المصاب الذى يقدم له يد العون، ذلك الشاب النحيف آمن أنه قد يكون سبباً لا يذكر أقحمه القدر فى هذه الحرب لعودة ابن لأمه أو أب لأولاده.

أحلام «دوس» بتصنيفه «مستأنف ضميرى» تبخرت فى الأيام الأولى لمركز التدريب والتأهيل العسكرى، بالرغم من تفوقه فى جميع التدريبات البدنية والخطط العسكرية إلا أنه رفض حمل السلاح حتى وإن كان خالياً من الذخيرة، ما تسبب له فى الكثير من المشكلات، فالشاب الملتحق حديثاً بالخدمة العسكرية لا يريد أن يكون سبباً فى إزهاق روح إنسان حتى وإن كان عدواً يخوض الحرب للقتل والتدمير، ليعانى من سلسلة تنمر لا يطيقها بشر ونظرات دونية من المجندين الجدد معه فى الثكنة العسكرية، حيث قال له الرقيب المسئول عن تدريب دفعته: «بمجرد خوضنا القتال سأكون متأكداً أنك لن تعود حياً».

أحيل «دوس» إلى المحاكمة العسكرية بتهمة التهرب من القتال، ووصل الأمر أن قادته أرادوا التخلص منه بحجة أنه غير لائق عقلياً للخدمة العسكرية ولا يتحمل المسئولية، وأسندوا إليه واجبات قاسية مثل تنظيف دورات المياه وحاول الضباط تخويفه، لكن جميع المحاولات لطرده من الخدمة باءت بالفشل، الشاب النحيف يرفض المغادرة وفضل مواجهة المحكمة العسكرية التى أقنعها أنه يريد المشاركة فى المعارك لكن ليس من أجل القتل بل لمساعدة الجرحى الذين قد يلقون حتفهم إذا لم يحاول أحد إسعافهم، وشرح لهم قناعاته التى يؤمن بها مستنداً إلى بعض الآيات من الإنجيل، ليأمر رئيس المنصة بالمحكمة العسكرية بعودته للجيش مرة أخرى وأن يوقع على وثيقة تخلى مسئولية وزارة الدفاع الأمريكية عن سلامته فى الحرب وأنه المسئول الوحيد عن حياته أثناء القتال فى ميدان المعركة.

فى مارس 1944 أرسلت الكتيبة التى يخدم بها «دوس» إلى ساحة الحرب فى معركتى جوام وأوكيناوا، لم يحمل سلاحاً فى هذه المعارك، أصيب خلالها ثلاث مرات، ولم يمنعه ذلك عن مساعدته لزملائه من الجنود بكل إخلاص.

بينما كانت القوات الألمانية تستسلم على الجانب الآخر من العالم فى القارة العجوز، وتحديداً فى مايو عام 1945، كانت قوات الإمبراطورية اليابانية تدافع بكل ما أوتيت من قوة عن الجدار العازل الوحيد المتبقى لها والمتمثل فى أوكيناوا، جوام، ومايدا، أمام غزو قوات الحلفاء، حيث كان الأخير عبارة عن جرف صخرى مهيب حاول رفاق «دوس» الاستيلاء عليه وأطلق عليه الجنود اسم «هاكسو ريدج»، بعدما أصيبوا بالذهول حين باغتهم الجنود اليابانيون بهجوم مضاد مباغت وصفه «دوس» بـ«الوحشى»، قبل أن يأمرهم قادتهم بالتراجع الفورى، وبالفعل تراجع الجنود باستثناء جندى ضعيف البنية منهك القوى عصى الأوامر لينقذ أكبر عدد ممكن من الجنود المصابين، وأسفر تصميمه وشجاعته غير المسبوقة عن إنقاذ 75 جندياً أمريكياً فى ذلك اليوم الدموى.

ديسموند دوس كان يفضل الموت حتى ينعم إنسان آخر بالحياة، فبينما كان آخرون يزهقون الأرواح لم يكن مشغولاً سوى بإنقاذها، ركض مراراً وتكراراً فى أتون الحرب بعد استماعه لصرخة أحدهم «مسعف.. مسعف»، لم يفكر مطلقاً فى سلامته، لكنه أراد فقط تقديم الإسعافات لزميله الملقى على الأرض يتألم من شدة الوجع، بالتزامن مع قذائف الهاون التى تتساقط من حوله كالأمطار فى ليلة رأس السنة، ونظراً لقربه من خطوط العدو كان بمقدوره سماع أصوات اليابانيين.

«كنت أصلى طوال الوقت للقدير، مترجياً أن يمنحنى القوة لإنقاذ شخص آخر، وحينما أنقذ واحداً آخر كنت أقول: (رجاء يا ربى امنحنى القوة لأنقذ المزيد)، كانت الدماء تسيل من وجه ذلك الشخص وعينيه، كان يرقد على الأرض يتألم وينادى على مسعف، أخذت الماء من حقيبتى وبعض الضمادات وغسلت وجهه، وحينما قمت بمسح وجهه، ونظفت ما فوق عينيه، ظهرتا لى، يا إلهى لقد أضاء وجهه، وقال (ظننت أنى فقدت بصرى) وإن لم أحصل على شىء سوى الابتسامة التى رمقنى بها كنت لأرضى بها جداً»، حسب حديث «دوس» قبل وفاته بفترة قصيرة.

عند اختباء «دوس» مع اثنين من الجنود الأمريكيين فى حفرة سقطت عليهم قنبلة ما جعله يركلها بقدمه لتؤدى إلى تمزيق ساقه حتى مفصل الفخذ، ليصاب بعدها فى ذراعه برصاص قناص، ورغم كل هذه الآلام لم يفكر فى نفسه بل أراد الاطمئنان على جميع الجرحى ويتأكد من نقلهم خارج مرمى القصف اليابانى.

ترك ديسموند دوس الخدمة فى الجيش الأمريكى بعد عام من انتهاء الحرب، حيث أصيب بمرض السل وظل خمس سنوات يعانى من المرض الذى فتك برئته اليسرى، ليعيش برئة واحدة فى السنوات المتبقية من عمره، وأزال الأطباء أيضاً خمسة ضلوع من صدره خلال سلسلة من العمليات الجراحية.

وهب «دوس» حياته للأعمال الخيرية بعد الحرب، وكرس وقته لمساعدة ذوى الاحتياجات الخاصة وشارك الشباب خبراته وقصصه عن المعارك ونشر فكره الإنسانى بينهم، ورغم جميع الأنواط والأوسمة العسكرية التى حصل عليها تقديراً لشجاعته، فإنه عاش بسيطاً هادئاً وفضل الحياة الريفية التى لم يحب سواها، قبل أن يتوفى فى الثالث والعشرين من مارس 2006، عن عمر ناهز 87 عاماً بعد تعرضه لأزمة صدرية ليلفظ أنفاسه الأخيرة فى ولاية ألاباما ويدفن بمقبرة «تينيسى» الوطنية.


مواضيع متعلقة