يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. على بُعد كيلومتر عن منزل «مرسى» يقف بائع «الموز»

كتب: أحمد منعم:

 يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. على بُعد كيلومتر عن منزل «مرسى» يقف بائع «الموز»

يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. على بُعد كيلومتر عن منزل «مرسى» يقف بائع «الموز»

بدت الأسواق هناك متحركة، صحون مملوءة بالخير، يدور بها الباعة بين البيوت، ودواب تحمل الثمار أو تسحب العربات المُحملة بين الشوارع. وإلى شوارع تلك المدينة الفسيحة الساكنة -القاهرة الجديدة- خرج مصطحباً عربته الصغيرة الخضراء ذات العجلتين، يدفعها بيدين جنوبيتين متحجرتين، بعد أن بدأ يومه بالجملة الصباحية المعتادة «يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم». بالقرب من ميدان «فاطمة الشاربتلى»، وجد طه السويسى لنفسه مكاناً يقف فيه بعربة الموز التى يقتات منها، عند بداية شارع 1 فى المجاورة الثالثة من التجمع الخامس، ليكون مكانه الذى اتخذه موطئاً لأكل العيش قاب كيلومتر واحد من منزل رئيس الجمهورية. يقول طه: «من جاور السعيد يسعد، وأنا بدأت العمل هنا منذ قرابة العامين، أى قبل انتخاب الرئيس، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم لا أضطر إلى مغادرة مكانى إلا فى وقت مرور التشريفة، أو عندما يطلب منى أفراد «الجهاز» أن أبتعد عن الميدان»، وغالباً ما يذعن بائع الموز لرجال الجهاز الذين يمارسون مهام «البلدية»، وإلا عُوقب بالتحفظ على ميزانه ذى الكفتين. يتوارى طه السويسى، الوافد من أسيوط، مع عربته الصغيرة ليلاً داخل مخزن فى أحد الأبنية الصفراء المتراصة التى تنتشر فى المدينة الجديدة، أبنية تتشابه فى لونها الأصفر مع ظهيرها الصحراوى الساكن، يقتات طه، أربعينى العمر، من بيع الموز، «عملت لفترة طويلة فى ليبيا، فى أعمال البناء تحديداً، لكن ما عدت أستطيع العمل فى البناء لأنه مرهق جداً» لذلك اتجه السويسى للبيع متجولاً. عربة الموز التى يديرها هى عالمه الخاص، عالم صغير جداً بحيث لا تزيد كثيراً على المتر طولاً أو عرضاً، دهانها الأخضر يختبئ تحت عبارات مكتوبة بخط طفولى مبهم «بحبك يا أسيوط.. توكلت على الله.. الحمد لله»، يخرج منها أسياخ حديدية تطعن «سباطات الموز» كى تقف فى شموخ حتى يقطعها طه بسكينه المقوس، «طه السويسى» هو الوحيد الذى تعرفه عربة الموز الخضراء، تعرفه بجلبابه الصعيدى، وعمامته غير الأنيقة، ولحيته الخفيفة التى لا يهتم بتشذيبها، وسكينه المقوس الذى يحصد أصابع الموز ليزنها قبل البيع. قديماً، كان البيع والشراء مقروناً بأغنيات يطلقها الباعة وعبارات مسجوعة، يجذب إيقاعها السامعين من الزبائن، وفى المدينة الجديدة الأمر مختلف، يبرر طه ذلك الاختلاف بهدوء «كل شىء هنا مختلف عن المدن القديمة، حتى البيع فى الأسواق، لا أحتاج لأن أنادى على سلعتى لأن المارة لا يحضرون بكثافة، المكان هادئ ولا يصح أن يكسر أحد ذلك الهدوء، وطبيعة السكان هنا الهدوء لا بد من احترام تلك الخصوصية». وحدها لقمة العيش هى التى دفعت بـ«السويسى»، وقتما كان شاباً، خارج بلدته «أصولى من أسيوط، مركز البدارى قرية «ساحل سليمان»، لكننى انتقلت فى فترة شبابى إلى ليبيا للعمل فى أعمال البناء، حتى عدت منذ ما يزيد على العامين، عندما وجدتنى لا أقوى على العمل فى البناء، عدت إلى أسيوط، وهناك اتفقت مع صاحب تلك العربة الصغيرة على أن أعمل عليها». تشير عقارب الساعة إلى العاشرة، فيخرج «السويسى» للعمل سعياً إلى رزقه، وللإنفاق على أبنائه الـ5: «عندى 3 بنات وولدان، أكبرهم فى ثانوى أزهرى، لذا لا يمكننى التقاعس عن العمل يوماً واحداً، أحيانا أعمل 35 يوماً وأحياناً 40 يوماً ثم أقضى أسبوعين فى أسيوط». إيقاع المدينة مفتاح لتفسير الهدوء الذى يسيطر على كل شىء فيها حتى على البيع والشراء، إيقاع هادئ لا يكلف المواطن الأسيوطى الوافد عناء ابتكار عبارات مسجوعة لترويج ما لديه من «ثمار الموز»، ولا يكبده تعب الصياح بأن لديه شيئاً يُباع ويُشترى، فقط يركن فى هدوء إلى أحد الأرصفة، ويتبادل أطراف الحديث مع أقرانه، الذين يبيعون عيدان قصب السكر، حتى يأتى «الزبون». يهدأ هدير محرك السيارة، كى تتوقف إلى جوار عربة «السويسى»، ينفتح زجاج السيارة، ليسأل قائدها: بكم كيلو الموز؟ فيجيب طه: 6 جنيه، يتابع القائد: زن لى 4 كيلو.. على هذا المنوال تسير أعمال البيع والشراء دون فصال؛ «مفيش فصال، ده طبع الناس هنا، فطوال ساعات وجودى من الظهر وحتى 11 مساءً، لا يجادلنى فى السعر أحد، إلا نادراً». يظل 12 ساعة فى الميدان الذى يقف فيه بسوقه الخاص، حتى ينصرف بعد ساعات من هبوط الليل، يستأنس «السويسى» فى ساعات الليل بالنور الأصفر المنبعث من أعمدة الإنارة، حتى تبلغ عقارب الساعة 11 فينصرف إلى مخزن الموز، الذى يبيت فيه بصحبة عالمه الأخضر الصغير «عربة الموز». أخبار متعلقة: التجمع الخامس.. للحياة وجوه كثيرة فى «كمباوند المصراوية».. فتش عن الريف الأوروبى كشك الحراسة.. «برواز» يطل على العالم «رمضان» بائع إكسسوار السيارات.. «سقفه شمس وسما وهوا» السوق التجارى بالتجمع الخامس.. الفرن والمقهى والخضر داخل مستطيل بوابات التجمع.. الخط الفاصل بين الحياة والفقر «على» يبيع السجائر أمام منزل قاضٍ.. ويقول: «مصر كلها بتاخد برشام» من أسيوط إلى فيلات التجمع.. يروى الطفل حدائق الأغنياء