التجمع الخامس.. للحياة وجوه كثيرة

التجمع الخامس.. للحياة وجوه كثيرة
كل الطرق تؤدى إلى القاهرة الجديدة، دائرية كانت أو سريعة، بكبارى علوية أو أنفاق، بميكروباصات أو سيارات خاصة، فى النهاية ستطالعك تلك الضاحية النائية ببناياتها وشوارعها وتجمعاتها، وكأنها قطعة من خارج مصر، على الأقل مصر التى يعرفها المصريون الآن، بالزحام والفوضى، وقلة النظافة.[Quote_1]
ستعكس تجمعات القاهرة الجديدة صورة مخالفة لكل ما اعتاد عليه المصريون هذه الأيام، هناك لا وجود لتكدس مرورى، أو مواقف عشوائية، أو أكوام قمامة، أو صراع على رغيف خبز نظيف، لن تصدمك شوارع ضيقة، ولا مبانٍ متلاصقة، ولا أصوات مرتفعة. سيجوب بائع الفاكهة شوارع الضاحية الهادئة دون أن يرفع صوته بالنداء على بضاعته، وتخترق السيارات الطرق دون نفيرها المزعج، سيتجول السكان بكامل حريتهم فى الحدائق المفتوحة، ويمارسون رياضاتهم المفضلة فى النوادى المنتشرة. وتستقبل المدارس الأجنبية طلابها، وتفتح الجامعات الدولية أبوابها أمام روادها، ستتحول الضاحية النائية إلى نموذج للحياة الراقية كما ينبغى أن تكون.
فى شارع التسعين، أحد أكبر شوارع التجمع الخامس بضاحية القاهرة الجديدة، تنتشر البنوك والشركات، ويتسع الشارع الطويل بدرجة كبيرة، تجعل من ارتفاع المبانى الإدارية به أمراً مقبولاً جداً، من شارع التسعين تتفرع الشوارع الجانبية، بدورها متسعة ونظيفة، لا ينبئ مظهرها الخارجى عن شخصية خاصة تتفرد بها عن غيرها من بقية شوارع التجمع الخامس، فجميعها متشابهة لدرجة تبدو بها وكأنها نسخة بالكربون من بعضها، لا شىء أكثر من عمارات أنيقة، ومحلات فاخرة، ومنازل قصيرة تطل فى تحفظ شديد، يمنح سكانها الخصوصية والأمان.[Image_2]
لا تترك منازل التجمع الخامس انطباعاً خاصاً فى نفس من يراها للمرة الأولى، جميعها متشابهة حتى ولو اختلف مظهرها الخارجى، أعمارها تنحصر بين سنوات عشر، وهو تاريخ إنشاء المنطقة، حينما أصدر الرئيس السابق حسنى مبارك قراراً عام 2000، رقم 191، بإنشاء الضاحية على مساحة تقترب من 70 ألف فدان، وعلى بعد نحو 10 كيلومترات من مدينة نصر، على أطراف القاهرة الشرقية. وقتها كان الحديث عن السكن فى مكان يبعد عن مدينة نصر البعيدة أصلاً يكاد يقترب من الدعابة الثقيلة، غير أن هناك من تحركوا فور صدور القرار ليشتروا الأراضى، ويقيموا المنازل، ويستوطنوا المدينة الجديدة، التى جرى العمل فيها على قدم وساق.
تزدحم الصحف السيارة بإعلانات الشقق الخالية بالتجمع الخامس، وكذا الفيلات، تختلف الأسعار باختلاف الموقع، ففيلات القطامية هايتس بالتجمع الأول، ليست بالتأكيد مثل شقق المجاورة السادسة أو الثامنة، تنوعت الوحدات، واختلفت المناطق وبقى التجمع الخامس حلماً لكل طلاب الهدوء والسكينة، ومن اكتووا بنار الحياة داخل القاهرة القديمة بزحامها وضجيجها.
إلى التجمع الخامس والأول، راح مشاهير الفن والسياسة يزحفون ببطء، هناك منزل على الأقل لأحد الشخصيات المعروفة التى تملأ أخبارها الصحف والفضائيات، من فاتن حمامة وعمرو موسى اللذين يجمعهما كومباوند واحد، مروراً بالفريق سامى عنان، وأحمد شفيق، والمشير طنطاوى، وكذلك صفوت الشريف، إلى الرئيس محمد مرسى، الذى يستأجر طابقاً كاملاً فى منزل بالتجمع الأول، على مقربة من مسجد فاطمة الشربتلى، الذى اعتاد أن يؤدى فيه صلواته اليومية قبل أن يصبح رئيساً.[Quote_2]
ورغم ما توفره منطقة التجمع الخامس من خصوصية لسكانها، فإن هناك نوعية من السكان تبحث طوال الوقت عن خصوصية أكبر، لذلك انتشرت فى الضاحية تجمعات داخل التجمعات، اتخذت لنفسها أسماء من نوعية «القطامية هايتس»، و«ديونز»، و«أرابيلا»، و«ميراج»، جميعها تحمى سكانها ببوابات إلكترونية يقف عليها موظفون يرتدون زى رجال الحراسة، اعتادوا أن يمنعوا أى غريب من الاقتراب أو التصوير، وحجتهم فى ذلك أن دخول تلك الأماكن مقصور على سكانها أو زائريهم.
إلى جوار المنازل تنتشر المدارس الدولية والجامعات الخاصة، أسماء كبيرة لمدارس شهيرة كـ«الشويفات»، و«الإنجليزية»، و«الأمريكية»، و«الفرنسية»، تتجاور مع الجامعات الأمريكية والفرنسية والكندية والبريطانية، تعلن عن وجودها من خلال سياراتها الضخمة التى تطوف شوارع العاصمة لتحمل الطلاب إلى حيث تستقر قاعات دراستهم، فى مواعيد محددة، وتوقيتات محسوبة بالدقيقة والثانية، لا تسبب ربكة مرورية، ولا زحاماً فى الشوارع. ليست المدارس والمنازل فقط، بنوك المال وشركات الأعمال ومطاعم الوجبات السريعة، والمطاعم الأنيقة والمقاهى الراقية تغرق الحى الهادئ، مع حرصها على أن يظل هادئاً بلا ضجيج ولا ضوضاء.
على أن عالماً آخر فى التجمع الخامس يسير متوازياً مع عالم الأغنياء وأصحاب المنازل ورواد الكافيهات وطلبة الجامعات الخاصة، ذلك الذى يعيش فيه العمال، أولئك الذين اعتادوا أن يهبطوا على الحى الراقى صباح كل يوم حاملين أمتعتهم وعدتهم ليقضوا حاجات سكان الحى. منهم عمال البناء، والنظافة، والحدائق، وماسحو السيارات، وحتى الباعة الجائلون وأصحاب المحلات الصغيرة. يبدأ يومهم فى الصباح الباكر عندما يهبطون من سيارات الميكروباص كل منهم إلى وجهته التى اعتادها، يتفرقون فى الصباح، لكنهم يجتمعون وقت الظهيرة، عندما يحين موعد الغداء، فيصبح من السهل جداً مشاهدتهم وهم يتحلقون حول عربة فول صغيرة، أو عربة كشرى، أو حتى على حشيش الحدائق الكثيرة الموجودة فى المنطقة.
فى العادة لا يسكن هؤلاء العمال فى التجمع الخامس باستثناء رجال الحراسة من البوابين وموظفى الأمن، عادة ما يأتون من قرى قريبة من القاهرة، أو من أحياء شعبية فقيرة بحثاً عن لقمة العيش التى توفرها لهم منطقة التجمع الخامس، من يعمل فى مجال البناء يسعى وراء منازل تحت الإنشاء، وشقق يشطبها أصحابها، ومن يعمل فى مجال النظافة، سيجد مطلبه فى شركة تابعة لجهاز المدينة توظف عمالاً يكنسون الشوارع ويعتنون بالحدائق، وفى كل الأحوال رزقهم سيطلبهم ما داموا يسعون وراءه.
مجتمع آخر نشأ فى التجمع الخامس ليخدم مجتمعاً آخر فى نفس المنطقة، ذلك الذى قام فى الأساس لخدمة العمال الذين يترددون على المكان، يتركز فى المجاورات الكثيرة التى تضم المساكن الشعبية، وهى ليست شعبية بالمعنى الدارج بقدر ما هى فى منزلة أقل من الكمباوندز ومناطق سكن الأغنياء، أسعار شققها ليست منخفضة، لكنها أيضاً ليست مرتفعة بالدرجة الكبيرة، أو على الأقل لم تكن مرتفعة قديماً، الأمر الذى مكن عدداً كبيراً من متوسطى الدخل أن ينتقلوا للسكن إليها، هؤلاء بدورهم نقلوا نشاطاتهم إلى جوار أماكن سكنهم، ففتحوا المقاهى والمطاعم الشعبية، ومحلات تفصيل الجلابيب الصعيدية، وورش النجارة ومشغولات الحديد أو «الفيرفورجيه»، وورش تصليح السيارات، وتنجيد المفروشات، أو إنهم باختصار كونوا مدينة تجارية صناعية متكاملة فى قلب المنطقة.[Image_3]
بالشارع التجارى تكمل الضاحية النائية ملامحها، هذا بالطبع إلى جوار توفر الخدمات الصحية من خلال المستشفيات، والعيادات الخاصة، هكذا يمكن للضاحية أن تنعزل وتنأى بنفسها عن سائر أحياء وضواحى العاصمة، هى بالفعل مستقلة، لولا العمال والموظفون الذين يعتمد عليهم السكان والقادمون من خارج التجمع، ولولا مجمع المحاكم الذى يقع هناك، الذى يخدش لحد ما ذلك الهدوء الذى تنعم به المنطقة، خاصة فى أوقات نظر القضايا المهمة، التى تحظى بمتابعة الرأى العام، ساعتها تنتشر قوات الشرطة، وتغلق محيط المحكمة، ويصاحب ذلك حالة هرج شديد من قبل المواطنين الذين يتجمعون داخل وخارج المحكمة لمتابعة القضية، غير أن كل ذلك ينتهى بنهاية اليوم، فيغادر الجميع المنطقة لتعود إلى هدوئها من جديد.
على جانبى الشوارع الرئيسية فى التجمع الخامس يتراكم البشر فى انتظار مواصلة تقلهم إلى خارج الضاحية، الميكروباص هو الأسرع، وهو أيضاً الأكثر وفرة، بعكس الأتوبيسات العامة، والتاكسيات، هذا بالطبع إلى جانب أجرة ركوبه التى تتناسب مع دخول العمال والموظفين، تنشط الميكروباصات صباحاً لتحمل العمال إلى داخل التجمع، كما تنشط فى نهاية اليوم، غير أن سائقيها يجدون مشقة فى العثور على ركاب فى منتصف النهار، ورغم ذلك لا ينقطعون عن الدخول والخروج من المدينة.
لا يزال تاريخ المنطقة حديثاً، أو لعله لم يكتب بعد، غير أن المؤكد أن تلك الضاحية النائية تدون تاريخها بنفسها، مع كل قطعة حجر توضع على الأرض، ومع كل نبتة خضراء تشق التربة، ومع كل مشروع جديد يعافر من أجل الوقوف بثبات، راقبوا تاريخها، فإنه يصنع الآن، وبقوة.
أخبار متعلقة:
فى «كمباوند المصراوية».. فتش عن الريف الأوروبى
كشك الحراسة.. «برواز» يطل على العالم
«رمضان» بائع إكسسوار السيارات.. «سقفه شمس وسما وهوا»
السوق التجارى بالتجمع الخامس.. الفرن والمقهى والخضر داخل مستطيل
بوابات التجمع.. الخط الفاصل بين الحياة والفقر
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. على بُعد كيلومتر عن منزل «مرسى» يقف بائع «الموز»
«على» يبيع السجائر أمام منزل قاضٍ.. ويقول: «مصر كلها بتاخد برشام»
من أسيوط إلى فيلات التجمع.. يروى الطفل حدائق الأغنياء