فى «كمباوند المصراوية».. فتش عن الريف الأوروبى

فى «كمباوند المصراوية».. فتش عن الريف الأوروبى
قد يظن الزائر أنه أخطأ..ثم يسأل نفسه هل هو فى القاهرة.. هل ما زال فى العاصمة، التى اشتهرت بزحامها وضوضائها ومساكنها، التى تشبه «علب الكبريت»، بشوارع عنوانها القمامة؟ يظل السؤال الحائر يتردد بداخله وهو يتجول داخل كمباوند «المصراوية».
الأشجار الكثيفة المنتشرة فى كل ركن وزاوية، الزهور الرقيقة الصفراء التى تزين الجدران، زقزقة العصافير، والشوارع المنبسطة الفسيحة الخالية من أى ضوضاء أو قمامة، تلك الحدائق التى تزهو بخضرتها لدرجة تعمى الأبصار، الأطفال الذين تتعالى ضحكاتهم إلى السماء وهم يلعبون لعبتهم المفضلة «الاستغماية» دون خوف أو قلق، علامات الصحة تبدو على وجوههم النضرة، لا ينسى الزائر أن يسحب نفساً عميقاً ليستمتع بالهواء النقى الذى يجلى الصدور، وهو ينظر بإعجاب إلى تلك المياه الزرقاء المتلألئة فى أحد أحواض حمامات السباحة، مزيحاً من ذاكرته منظر المياه الراكدة السوداء الذى يطالعه دوماً فى شوارع القاهرة، ثم يبدأ فى تأمل الزخارف والخطوط المعمارية المدهشة التى زينت العمارات الشاهقة، قد يتسرب لنفسه بعض الحزن، إذا كان من عاشقى التاريخ المصرى، فها هو حلم الخديو إسماعيل متجسداً، عندما حلم بأن تصبح القاهرة «باريس الشرق».[Quote_1]
داخل الكمباوند تسير «ياسمين»، 25 سنة، بهدوء وتؤدة، هى واحدة من سكان التجمع، فى يدها عدد من الحقائب البلاستيكية، التى تدل على أنها أنهت عملية التسوق فى أحد محلات «السوبر ماركت» الشهيرة، طرحتها المزركشة «الإسبانيش» ملفتة للأنظار، أما الأقراط التى اتخذت شكل «ريشة حمام» فعبرت عن ذوق رفيع لامرأة تهتم بجمالها، حتى وإن كانت «حامل»، تعطى السائق أجرته وهى تعرف معنى تلك النظرة على وجهه.. «هى من سكان أرقى مناطق القاهرة، فلا بد أن يتناسب حجم البقشيش مع حجم الرقى»، ولكنها لا تعيره انتباهاً، فهى قبل أن تكون من سكان هذا المجتمع الراقى، من سكان وسط البلد، خصوصاً شارع نوبار بالتحرير، حيث ولدت وتربت فى بيت جدها، كما تروى، ولكن زواجها منذ عامين دفعها للانتقال والعيش بالكمباوند.
«هنا عرفت معنى الهدوء والحياة الحقيقية، بل ودفعت عائلتى كلها للسكن معى، فأبى يقطن فى عمارة 3 المجاورة لنا»، تقولها ياسمين وهى تقارن بين الحياة فى القاهرة العاصمة، وبين حياتها فى «الكمباوند»، تبتسم ابتسامة ذات مغزى، وهى تسرح بنظرها فى الحدائق الخضراء، قائلة بشكل قاطع: «لا وجه للمقارنة».
معنى الأمان يتجسد بالنسبة لياسمين فى الكمباوند، حيث يمكن للأطفال اللعب طوال الليل دون خوف، كما أن أفضل النوادى الصحية ومدارس اللغات كلها قريبة من مسكنها، تستطيع الذهاب فى أى وقت، وهو ما تفتقده بالقاهرة، التى تقول إن الذهاب فيها إلى أى مكان يحتاج إلى حساب أمرين؛ وقوع أعمال شغب أو عنف، بالإضافة لمزيد من الوقت بسبب ازدحام المرور، معلقة: «فى النهاية أنا أعمل لمستقبل أولادى».
هذا الحب المنطقى من جانب ياسمين للبيت الذى تعيش فيه، قابله رفض والدها فى البداية أن ينتقل للعيش معها، وهو الذى تعود على «اللمة» و«الدفء»، الذى تتميز به بيوت العاصمة، مقابل الهدوء القاتل، من وجهة نظره، فى «الكمباوند»، وعدم شيوع معنى الجيرة بمفهومها الحقيقى، إلا أن ياسمين استطاعت التغلب على مخاوفه بكلمة «الاستقرار».
على بعد أمتار قليلة، كانت مدام هناء تقف أمام سيارتها «المرسيدس»، المتسقة فى اللون مع فستانها «الرصاصى»، المتناسق مع لون نظارتها الطبية «الأحمر»، وهى تطلب من أبنائها الترجل من السيارة والذهاب سريعاً للبيت، فأحمد، 17 سنة، عائد من تمرين كرة السلة، ويحتاج إلى حمام سريع، وهو الحال نفسه مع مصطفى، 12 سنة، القادم من المدرسة، حاملاً فى يده بقايا وجبة «ماكدونالدز للأطفال».[Quote_2]
هذا الوضع الذى يتميز بالرفاهية المطلقة بالنسبة لمدام هناء، المديرة بأحد البنوك، نوع من التعويض عن معاناة دامت 10 سنوات سكن فى منطقة فيصل، تقول إنها عانت خلالها جداً، الآن ترى أن الفارق بين الاثنين كالفارق بين «الثرى والثريا». تقول «الضوضاء هناك كانت صاخبة، والقمامة فى كل مكان، والمخدرات تُباع نهاراً (على عينك يا تاجر)، والشوارع تتحول فى الشتاء إلى أراضٍ طينية يصعب النجاة من الغوص بها»، كل هذا أحال حياتها إلى جحيم، ولكنها اضطرت لتحمله؛ لأنها كانت فى بداية حياتها، ولكن بمجرد أن استطاعت تكوين مبلغ من المال أسرعت لشراء شقتها الفسيحة بالكمباوند منذ 12 عاماً، تتحدث بفخر: «كنا من أوائل السكان»، يحلو لها أن تشبه مكان سكنها بالريف الأوروبى، حيث الهواء العليل، الذى يقتل حر الصيف، والأمطار التى تغسل الشوارع وتجعلها كالمرآة فى الشتاء.[Image_2]
تؤيد مدام هناء الحديث عن رقى سكان الكمباوند، ولكنها تشير إلى أن ذلك ليس الدافع الوحيد للسكن بها، فهناك أزمة فى أسعار الشقق فى العاصمة، تدفع الشباب إلى اختيار السكن فى «الكمباوند»، خصوصاً أن أسعار الإيجار فيها ليست مرتفعة، وقد تبدأ من 700 جنيه للشقة.
تضحك مدام هناء قائلة: «لا أنكر أن السكان يتميزون بالرقى والاحترام فى تصرفاتهم، ويكفى أن الأولاد هنا (مرتاحين) بمدارسهم مقارنة بفيصل، التى كان أصدقاؤهم فيها يحاولون إقناعهم بتجربة السجائر، لكن فى كل مكان يوجد الجيد وغير الجيد، فأحد سكان الكمباوند يمتلك 4 شقق، لديه بها 4 زوجات، دون الدخول فى التفاصيل!».
أخبار متعلقة:
التجمع الخامس.. للحياة وجوه كثيرة
كشك الحراسة.. «برواز» يطل على العالم
«رمضان» بائع إكسسوار السيارات.. «سقفه شمس وسما وهوا»
السوق التجارى بالتجمع الخامس.. الفرن والمقهى والخضر داخل مستطيل
بوابات التجمع.. الخط الفاصل بين الحياة والفقر
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. على بُعد كيلومتر عن منزل «مرسى» يقف بائع «الموز»
«على» يبيع السجائر أمام منزل قاضٍ.. ويقول: «مصر كلها بتاخد برشام»
من أسيوط إلى فيلات التجمع.. يروى الطفل حدائق الأغنياء