بروفايل| نزار قباني.. العروبي

كتب: سلوى الزغبي

بروفايل| نزار قباني.. العروبي

بروفايل| نزار قباني.. العروبي

قديس الكلمات، لم يرى فرقًا بين شاعريته وإنسانيته، الشعر هو انقلاب بالكلمات ينشده إنسان غاضب، يرى أن الشاعر يجب أن يبقى دائما متربصا كثعلب في غابة وإلا تحول إلى حيوان أليف لا يفعل شيئًا، فالكتابة فعل تغيير ولا كتابة لا تؤمن بالتغيير، فصار شاعرًا غاضبًا لا يأبه بغير أحاسيسه وضميره وصار "نزار قباني".

في 21 مارس 1923، وُلِد طفلًا لا يطيق أن يرى الأشياء ثابتة أمامه، يُجري تجاربه على نفسه أولًا، مرة أشعل النار في ثيابه فقط ليكتشف معنى الاحتراق، وأخرى رمى نفسه من الطابق الثالث في بيت أسرته في دمشق لاكتشاف الإحساس بالسقوط، وثالثة قصّص طربوش أبيه الأحمر لأنه ملل من شكله الأسطواني، ورابعة كسر ظهر السلحفاة الصغيرة التي كانت تتنقل في المنزل، فلم يقتلها بقدر ما كان يريد أن يقتل السر.

لم يكن شاعرًا متواضعًا في أحلامه، أرد أن يكون شاعرًا باتساع الوطن العربي من المحيط للخليج، كانت طموحاته على حجم العالم العربي، حتى أصبح شاعر هذا الوطن الكبير، بروافد كثيرة لا يجوز حصره في إحداها فقط، منها الرافد الكلاسيكي الذي يحمل إلى شعر نزار معجمًا كاملًا أصيلًا من الكلمات العربية الصافية والأنغام الموسيقية القوية الغزيرة، والرافد الرومانسي بعذوبته ورقته وعشقه للحياة بكل أفراحها وأحزانها، والثالث الواقعي الذي يلتفت إلى مشاكل المجتمع ويعبر عنها بلغة عصرية ناضجة، وتلتقي هذه الروافد جميعا في مزيج شعري شديد الحيوية والجمال والتأثير، حسبما وصف روافده الكاتب رجاء النقاش.

"العروبة"، لا يتنحى ذكرها عن أحاديثه وشعره، لم يكن نصيرًا للنساء فقط، فكان في الأصل مُدافعا عن العربية وأصولها، مشكلته مع العالم العربي أن الكُتاب يستنشقون ثاني أكسيد الكربون ولا يمكن لأدب أن يعيش في ذلك المناخ، ولا يمكن لقصيدة أن تتنفس خارج الحرية، وذكر كلمة الأديب يوسف إدريس "كل الكمية المعطاة من الحرية في الوطن العربي، لا تكفي كاتبا واحدا".

"يا وطني الحزين.. حوّلتَني بلحظةٍ.. من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين.. لشاعرٍ يكتبُ بالسكين"، أبياته من قصيدة هوامش على دفتر النكسة، عبرت عن شاعر من أكثر الشعراء تعبيرًا عن الأزمات السياسية التي يمر بها العرب، ومهاجمًا للأوضاع العربية المتخلفة من عصور العثمانيين والمماليك والاستعمار الغربي، فلم يعرف العرب شاعرًا معاصرًا ينتقدهم بعنف ويكويهم بالحديد الساخن الملتهب مثل قباني، فقصائده هي أكثر القصائد المعاصرة، كمًا وكيفًا،  في هجاء الخمول والتفكك والميل إلى الترف والاسترخاء وتدهور فضيلة الشجاعة في الإنسان العربي المعاصر، ما أدى إلى توالي الهزائم على هذا الإنسان وتراكم أزماته ومآزقه وقدرة أعدائه على سحقه في أي صراع، كما قال رجاء النقاش.

نصف كتبه ممنوعة في هذا الوطن "الفوسيفسائي" الذي يسمونه العالم العربي، كما قال يومًا، ولم يخش زوار الفجر، الموجودين في كل العصور، أن يدافعون عن هيكلتهم الخاصة، لكنه الشاعر المؤمن بما يقول ظل شاهرًا سيفه في وجه كل مَن يحاول أن يقطع أصابع الكلمة العربية، مؤمنًا أن عبر التاريخ هناك صراع بين السلطة والكلمة وأنها عداوة أدبية، لأن السلطان يعجبه صوته ويعتبر نفسه المطرب الأول ولا يريد أن يسمع إلا صوته وكلامه، والشاعر رجل سلطة بحكم قدرته على الوصول إلى الجماهير، وتمرد على ما كتبه بنفسه "وكيف نكتب والأقفال في فمنا؟.. وكل ثانية يأتيك سفاح".

"ما قيمةُ الشعب الذي ليس له لسان؟"، فرغم منعه من دخول بعض البلاد العربية لقصائده السياسية اللاذعة، ظل شاعرًا لم يحترف الشتيمة، هو يختلف مع نظام أو حاكم، وأن السياسة حديقة عامة تُطرح فيها الأسئلة ويُجاب عنها، فلم يخش يومًا من اقتراب "أسوار السلطان الصماء"، وينعي العروبة التي رأها مثل أرملة، ويتساءل "أليس في كتب التاريخ أفراح؟".


مواضيع متعلقة