بروفايل| سيف الدولة الحمداني.. "الشاعر"

11:14 ص | الخميس 10 مارس 2016

فارسٌ يملك فصاحة اللسان وقوة السيف، اعتلى بهما مجالس العلماء والقلاع المحصنة، يذكره التاريخ "أميرًا" حرر بلاده من الغزاة متصديًا لصانعي المكائد، وعرفه الأدب "شاعرًا"، فـ"لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ العلم ونجوم الدهر"، كما قال عنه الثعالبي، وأصبح "سيف الدولة الحمداني" فارس الحرب والكلمة.

منذ نعومة أظفاره هزَّ قلبه الأدب والشعر، فكان للأمير علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان التغلبي المولود سنة 303 هجريا - 915 ميلاديا، معزة خاصة لدى والده المُلقب بأبي الهيجاء لفرط شجاعته، بعد أن قرنت ولادته، في مدينة ميافارقين أو ميدنة الشهداء، وهي من أشهر مدن ديار بكر، بتولية أبيه عبدالله إمارة الموصل، ومنذ صغره توسم به أبوه ذكاءً حادًا لهذا وضعه بين أيدي حكماء الموصل وعلمائها العظام، الذين لقنوه العلوم والآداب التي كانت تُدرس من قِبل العلماء حينذاك، لكن لوحظ عليه أنه كان يهز قلبه الأدب والشعر أكثر من بقية صنوف المعرفة الأخرى، وكان له ميل واضح إلى القنص وركوب الخيل والرمي.

كما علمه قومه أصول الفروسية وخوض المعارك، لكي يدافع عن وطنه وأمنه، ويكتسب أمجادًا جديدة تضاف إلى أمجادهم، فلم يكد يبلغ عامه العشرين حتى خاض غمار معارك طاحنة ضد المتمردين على الدولة العباسية في منطقة "رأس العين" وانتصر عليهم وأخمد تمردهم، وكان من نصيبه لقب "سيف الدولة".

بتولي "سيف الدولة" لإمارة حلب أضحت أشبه ما يكون بمجمع لغوي كبير يستقطب خيرة علماء اللغة والنحو الذين يجدون ضالتهم العلمية في بلاط الحمدانيين، إذ إن روح المنافسة التي أذكتها المناظرات الفكرية والخصومات الأدبية التي كانت تقام في منتديات سيف الدولة الحمداني كان لها أرقى الآثار وأفضل المنعكسات على مسيرة التأليف اللغوي الذي كان ميزة العقل العربي المتألق في القرن الرابع.

وكان الأمير سيف الدولة لا يتوانى عن بذل الأعطيات السخية على المجيدين من رواده العلماء، لاسيما المبرزين منهم حتى إنه خصص نقودًا مميزة جعلها للعلماء أطلق عليها اسم "دنانير الصلة"، وكان الواحد منها يعادل 10 أضعاف الدينار العادي، ما انعكس إيجابًا على الحركة الثقافية الحمدانية لاسيما علوم اللغة العربية التي حظيت بعناية فائقة من قبل سيف الدولة لما عرف عنه من ميل للآداب وشغف بالتذوق الأدبي.

كما ذكُر في السير المكتوبة عنه، وكان من رواد مجالسه المتنبي وابن خالويه النحوي المشهور، والفارابي الفيلسوف الشهير، كما اعتنى بابن عمه وأخو زوجته أبوفراس الحمداني شاعر حلب، وكان يعجب أيضًا بالخط الجميل، ويجزل العطاء للخطاطين الماهرين، وكان لسيف الدولة خطاط خاص به من بني مقلة هو عبدالله بن مقله، أخو الوزير أبي علي محمد بن علي، وكان سيف الدولة لفرط إعجابه بصحائف ابن مقلة يصطحبها معه حتى حين يخرج للغزو.

لم يكن للشعر وقتًا محددًا، يترك لقلبه وارتجاله ولسانه العنان حينما يتأثر بموقف، فكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال، ومن كثرة حسادها لقربها منه ومحلها في قلبه صنعوا لها المكائد فبلغه الخبر، وخاف عليها فقال:

راقبتني العيون فيك فأشفق ت ولم أخل قط من إشفاق

ورأيت العذول يحسدني في ك مجدًا يا أنفس الأعلاق

فتمنيت أن تكوني بعيدًا والذي بيننا من الود باق

رب هجر يكون من خوف هجر وفراق يكون خوف فراق

ومن فرط عشقه للشعر، قيل إنه ذات يوم كان يجتمع مع ندمائه، ومن ضمنهم ابن عمه أبا فراس، وقال سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي، يعني أبا فراس:

لك جسمي تعله فدمي لم تحله؟

فارتجل أبو فراس وقال:

قال إن كنت مالكا فلي الأمر كله

فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروفة تغل ألفي دينار في كل سنة.

ونظم الشعر في أخيه "ناصر الدولة" بعد جفاء طال علاقتهما فقال:

لستُ أجفو وإن جَفَوت ولا أترك حقــاً علَيّ في كل حالِ

إنما أنت والد، والأب الجا في يُجازى بالصبر والاحتمال

ولم تختف مجالس الشعر والعلم في عهده قط إلا بوفاته في 10 مارس عام 966 ميلاديًا، في حلب بعلة الفالج، ونقل جثمانه إلى ميافارقين مسقط رأسه حيث دفن فيها.