"نور".. حدوتة مصرية
"نور".. حدوتة مصرية
نور الشريف
ذات يوم أدرت حواراً موسعاً مع نور الشريف لمجلة «الفن السابع» السينمائية المتخصصة، التى كنت رئيساً لتحريرها، حول صناعة السينما فى مصر. كان «نور» قد انتهى لتوه من فيلم «العاشقان»، تجربته الأولى والوحيدة فى الإخراج السينمائى. بعد الندوة قال لى مودعاً ومجاملاً: «أسمعنى صوتك».. قلت: «كيف وأنت تغادر بيتك فى الثامنة صباحاً وليس لديك هاتف محمول؟».. فابتسم ولم يعلق، ولم أستطع وقتها أن أسأله لماذا لا يحمل هاتفاً محمولاً وقد أصبح المحمول فى أيدى كلاب السكك! (أحد المقربين من نور قال لى إنه كان يقتنى محمولاً وتخلى عنه لأنه يجرح خصوصيته، ولأن بوسى -على نجوميتها وهذا الجمال الذى يخطف القلب- كانت تغار على زوجها من «بعض» معجباته).
كانت حالة «نور - بوسى» الأكثر تعبيراً عن توافق استثنائى بين «ثقافة» الزوج الرفيعة و«جمال» الزوجة المبهر. زوج مثقف وزوجة فاتنة، وكلاهما نجم. ليس سوبر ستار لأن حسبة نور وبوسى من البداية لم تضع الحب فى مواجهة مع غول النجومية. كن نجماً كما تريد.. لكن تذكر دائماً أن لقلبك وبيتك عليك حقاً. وقد عاش زواجهما أكثر من ربع قرن دون أن يعكر صفوه شائبة من شوائب الوسط الفنى، وهى كثيرة ومؤثرة، وبدا هذا الزواج تقليدياً، أشبه بزيجات أبناء الطبقة المتوسطة فى ستيناتها: زواج مغلق على دفء ومودة وابنتين، لكنه حتماً لا يخلو من قلاقل واشتباكات صغيرة. وبعد أكثر من ربع قرن انفصل الزوجان وبقى الود موصولاً، لأنه كان وداً حقيقياً.
أسس «نور» شركة للإنتاج السينمائى باسم «إن بى فيلم»، وهما الحرفان الأولان من اسميهما. لا أعرف كم فيلماً أنتجتها هذه الشركة، لكننى أتذكر «حبيبى دائماً»، وكان الاثنان بطليه: إبراهيم وفريدة. كانا حبيبين حقيقيين تماماً لولا أنْ غيّب الموت «فريدة» فى نهاية الفيلم (الموت هو المتغير الوحيد الذى يضمن للحب دواماً أقرب إلى الخلود)، وأظن أن كلاً منهما قال فى الفيلم ما لم يستطع أن يقوله للآخر فى الواقع.. أقول «أظن»؛ لأنهما فى «العاشقان» استعادا رجفة قلبَى «إبراهيم وفريدة» من دون أن ينسيا أنهما فى منتصف العمر. وبين «حبيبى دائماً» و«العاشقان» كبر نور الشريف. استوى على مهل. أنضجه التراكم والاجتهاد والقراءات الواعية.
روى لى سيد سعيد، وهو أحد أكثر نقاد السينما فى مصر ثقافةً، أنه كان مسافراً مع «نور» على طائرة واحدة إلى المغرب لحضور مهرجان تطوان، وحتى ذلك الوقت كان يعتقد أن ما يقال حول ثقافة نور الشريف لا يعدو أن يكون جزءاً من وجاهته كنجم، فإذا به أمام مثقف موسوعى يتحدث فى فلسفة التصوف بوعى لا يقل عن وعيه بمهنته كممثل. وثمة ميزة أساسية فى «نور» على الرغم من شهادة المقربين منه: يتحدث كممثل، أى كصاحب مهنة، لكنه يفكر كمثقف، أى كصاحب موقف، وفى الحالين يظل بسيطاً، دافئاً وموضوعياً. إنها إطلالة «محمد جابر»، ابن حى السيدة زينب ومسارح القطاع العام وثلاثية نجيب محفوظ وواقعية عاطف الطيب ومحمد خان وبشير الديك. ابتسامة نور الشريف جاذبة، لا خبثَ فيها ولا التواء، لكنها لا تخلو من ترفّع. وثمة رصانة فى الصوت على تعدد طبقاته (من الهمس إلى الصراخ)، وانحناءة خفيفة قرب الكتفين كأن صاحبهما يحمل «صخرة سيزيف».
ما الذى كان ينقص نور ليكون «ابن رشد»؟.. لحية صغيرة وعمامة ومسافة بين الممثل والشخصية لكى لا تركبه ولا يكتم أنفاسها. ما الذى كان ينقصه ليكون «ناجى العلى»؟.. هيئة بائسة وغبار على الوجه ويدان معقودتان خلف الظهر، ثم خناقة صحفية مفتعلة يراق فيها دم الممثل والشخصية. لا أظن أن أحداً سينسى صرخة نور الشريف فى نهاية «سواق الأوتوبيس» وهو ينهال ضرباً على وجه نشال صغير: «يا ولاد الكلب». الغل كان حقيقياً، ونبرة الصوت كانت متحيزة، لأنها آتية من براءة عصر الأحلام الكبيرة: قوية.. يخدشها شجن وبكاء مكتوم.