يعد عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين نموذجاً للمثقفين الذين خاضوا رحلة انتقال سلس من العصر الملكى إلى عصر الحركة المباركة عام 1952.
فكما بزغ نجمه فى مجتمع ما قبل يوليو، حاول أن يحتفظ بمستوى لمعانه بعدها، فارتبط بأعضاء مجلس قيادة الثورة، وتشكلت بينه وبين عبدالناصر علاقة كان يصفها طه حسين بـ«الخاصة». وكان العميد -كما ذكرت لك- من أوائل الكتاب الذين أطلقوا على «الحركة المباركة» للضباط وصف «الثورة».
يذكر «ثروت عكاشة» فى مذكراته أن صفحات مجلة «التحرير» التى أصدرها ثوار يوليو احتضنت صيحة الدكتور طه حسين الرافضة لوصف ما حدث يوم 23 يوليو بالحركة المباركة أو النهضة، وإصراره على أن يحمل اسم «ثورة».
ربما كانت تلك وجهة نظر طه حسين، وقد يكون لديه حينها ما يبررها، لكن المتابع لسيرة عميد الأدب العربى يحتار عند مقارنة أسلوب تفاعله مع حركة يوليو بما تمتع به من كبرياء وشموخ فى مواجهة السلطة فى العصر الملكى، وكيف عامل الأمير أحمد فؤاد -ملك مصر فيما بعد- بأنفة وغضب حين حدثه عن مؤتمر لـ«العميان»، وكيف رفض طلبه -بعد أن أصبح فؤاد ملكاً- منح مجموعة من السياسيين الموالين له درجة الدكتوراه الفخرية.
لعدة سنوات ظل طه حسين يدافع عن الضباط ويمتدح أفعالهم وقراراتهم، وفى اللحظات التى كان يعود فيها إلى كتيبته من المثقفين والسياسيين الموروثة عن العصر الملكى -ومن بينهم صديقه مصطفى باشا النحاس- كان يهون من مخاوفهم وهواجسهم، ويقلل من قيمة تحفظاتهم على بعض القرارات التى اتخذها الضباط خلال الأشهر الأولى للثورة، وتوجسهم من المآلات التى يمكن أن تنتهى إليها الأمور نتيجة الاستئثار بعملية صناعة القرار، وتفكيك بنى الأحزاب السياسية التى تنتمى إلى «العهد البائد».
هل يجد هذا الموقف تفسيره فى حالة التأرجح التى ميزت الأداء السياسى للعميد قبل يوليو 1952؟. قد يكون. فقبل الثورة كان طه حسين من أكثر الكتاب الصحفيين المتأرجحين فى اتجاهاتهم وميولهم السياسية.
بدا معادياً للوفد وموجهاً قلمه إلى نقد زعيمه التاريخى سعد زغلول، وأشد ميلاً إلى الأحرار الدستوريين، وكاتباً بارزاً فى جريدتهم «السياسة»، وانتهى به المآل إلى تغيير موقفه والإعراب عن تأييده وانضمامه إلى حزب الوفد وفكره الليبرالى الذى كان أكثر اتساقاً مع أفكاره وتوجهاته.
هذه الطبيعة المرنة -وأحياناً المتقلبة- لشخصية العميد قد تكون من ضمن العوامل المفسرة لتحول طه حسين من النقيض إلى النقيض قبل يوليو 1952، ثم التحول من النقيض الذى آمن به (الوفد) إلى نقيض جديد بعد حركة الضباط.
لكن يبقى أن ثمة خيطاً رفيعاً فاصلاً بين الأداء السياسى لطه حسين قبل ثورة يوليو وبعدها.
قبل الثورة لم يفقد طه حسن حسه النقدى سواء مع فريق الأحرار الدستوريين أو مع «الوفد».
فى الحالتين كان يمارس دوره كمثقف عضوى مهموم بقضايا مجتمعه ومنشغل بتقييم أداء الحكومات -على اختلاف أطيافها- وأساليب تعاملها مع هذه القضايا.
أما بعد الثورة فقد تحول هذا المعارض الجسور الذى خاض معارك فكرية وثقافية وسياسية ضارية بدا فيها مقاتلاً عنيداً إلى كائن أليف مستأنس.