"لسان العبور".. رحلة توثيق جنود الميكرفون والكاميرا لنصر أكتوبر

كتب: دينا عبدالخالق وكريم عثمان

"لسان العبور".. رحلة توثيق جنود الميكرفون والكاميرا لنصر أكتوبر

"لسان العبور".. رحلة توثيق جنود الميكرفون والكاميرا لنصر أكتوبر

قلوب عازمة على النصر، وعيون تراقب خطواتهم، وأيادٍ تدوّن بطولاتهم، ملحمة انتصار 6 أكتوبر قادها أبناء مصر الشجعان ووثقها جنود صاحبة الجلالة على خط النار بـ"الصوت والصورة"، يهرولون وراء الجنود يتمتمون "الله أكبر" برفقتهم، يركضون خلف التفاصيل ليوثقوا ملحمة غيَّرت التاريخ، ونقلوا صورة حقيقية عن تلك المعركة الدامية التي أعادت لمصر أرض الفيروز وأنهت أعوام الاحتلال، بعضهم من تواجد بجانب الجنود، وآخرين سجلوا بأصواتهم النصر، والذي ما زالت كواليسه لم يتم الكشف عنها كاملة.

المصور محمد لطفي هز تل أبيب بصورة "التوابيت الإسرائيلية".. وخلدته الأقمار الصناعية خلال العبور

وثق المصور الصحفي الراحل محمد لطفي، بكاميرته، ملاحم شعبية وعسكرية مميزة، منذ حرب الاستنزاف والنضال بمدينة السويس، حيث ترك "عش الزوجية" سريعا الذي كان يحلم به، بعد فترة قصيرة من زواجه، تلبية لطلب رئيس تحرير جريدة الأهرام آنذاك محمد حسنين هيكل، ليستكمل مسيرة صديقه المصور أنطوان ألبير.

بعد انتقال "لطفي" لمدينة السويس، وتوثيقه جانبا من تلك الأحداث، كان يعتمد نقلها إلى القاهرة، من خلال مدير التوزيع المسؤول بمكتب الصحيفة، الذي كان ينقلها ضمن الجرائد، وما إن وصل الخبر لإسرائيل، حتى طوقت المبنى بأكمله واحتجزت الصحفيين داخله لمنع نشر الصور، حتى تمكن الأهالي من تخليصهم من قبضة الإسرائيليين، ليخرج المصور الشاب وقتها حاملا عدسته كسلاحه المفضل ويوثق آثار العداون على منازل المصريين، وفقا لما روته ابنته نادية محمد لطفي.

"بابا كان لسه عريس جديد، بس ساب بيته علشان الحرب زي الجنود، وبيفتخر جدا بمشاركته فيها وكان دايما بيحكي عنها".. تحكي نادية عن اعتزاز والدها الراحل العام الماضي، بتغطيته لمعركة العبور ضمن المجموعة "39 قتال" بقيادة الشهيد البطل إبراهيم الرفاعى، حيث اختاره هيكل وقتها لشجعاته وشغفه الشديد، وبالفعل انضم للجند قبل فترة من بداية الحرب، ليسجل بطولات وتاريخ كامل للبواسل الذين ضحوا بحياتهم فداء للوطن، بصور حية تتحدث وتكشف في ثناياها الإيمان الكبير بالنصر، وفزع وصدمة الإسرائيليين لحظة عبور الجيش خط بارليف "المنيع"، مثلما أدعوا، واستسلام جنود الاحتلال في بورفؤاد بعد الهزيمة.

في تلك الفترة قبل حرب أكتوبر، فقد رئيس قسم التصوير ومستشار رئيس التحرير الأسبق بجريدة "الأهرام" حقيبته مع زميله المحرر الصحفي، التي كانت تحوي ملابسهم كامل، ليضطروا للإقامة شهرا كاملا بنفس الزي العسكري، وفقا لابنته، مضيفة: "ولما القائد جابله لبس جديد رفض يروح يغير علشان خايف تضيع منه لقطات"، لم تقتصر مشاركته في الاستعداد للحرب على ذلك فقط، وإنما أيضا وضع يده في يد جميع الجنود.

شهد أيضا "لطفي" صعوبات خلال تغطيته الحرب، حيث كاد أن يفقد حياته أثناء عبوره للقناة حيث كان يقترب من أحد حقول الألغام الإسرائيلية، ولكن سرعان ما أنقذه أحد جنود الصاعقة الذي قام بدفعه داخل المياه، ليدخل التاريخ بعد ذلك بعدم التزامه بطلب حمايته، ليقدم بشجاعة على عبور قناة السويس على قارب مطاطي لتلقط صورته الأقمار الصناعية، وتخلد كأحد المعالم الشهيرة بالعالم لملحمة أكتوبر والتي تحولت كجدارية في طريق مرسى مطروح، لذلك أخبره وقتها القائد الأعلى للقوات المسلحة أنه "أشجع مصور صحفي شوفته في حياتي"، وفقا لنادية.

وبين تلك المشاهد الملحمية لبطولات الجنود الذين علت أصواتهم المنتصرة وقتها بترديد "الله أكبر" أثناء الفتك بالعدو.

خُلد أيضا محمد لطفي من خلال صورته الشهيرة للتوابيت الإسرائيلية التي هزت تل أبيب وقتها، ولذلك ذكر الرئيس الراحل محمد أنور السادات اسمه قبيل اتفاقية كامب ديفيد، بأن صوره أنهت مقولة أن "الجيش الإسرائيلي لا يقهر".

حلمي البُلك.. مذيع بيان "نصر أكتوبر": خصص برنامجا لمساعدة الفدائيين

على بُعد مئات الأميال من القناة، عايش أيضا لحظات الحرب عن كثب، وتولى مهمة بالغة الخطورة من خلف ميكروفون الإذاعة، لينقل بصوته الهادئ البيان رقم 5 عن ملحمة العبور معلنا نصر مصر، والذي ظل خالدا بصوته على مدى 47 عاما، رغم رحيل صاحبه حلمي البُلك، في نوفمبر 2002، فكان مثواه الأخير قلوب محبيه ومستمعيه.

مسيرة رئيس الإذاعة الأسبق، لم تبدأ مع حرب أكتوبر فقط، وإنما سبقتها بعدة أعوام، فعقب نكسة عام 1967، ووقوع أرض الفيروز فى يد إسرائيل، وبصفته من شمال سيناء وتحديدا من العريش، شعر البُلك بأن من واجبه أن يُطمئن العشرات من أبناء سيناء بالقاهرة والذين توافدوا عليه فى منزله من طلبة الجامعات والموظفين ورجال الأعمال، لذلك قرر تقديم برنامج بإذاعة صوت العرب "الشعب فى سيناء"، ليكون همزة الوصل بين أفراد المحافظتين للم شملهم، وفقا لحديث نجله أحمد البلك، مدير عام النشرات العربية بقطاع الأخبار بالتليفزيون المصري.

كما قدم برنامج "يا عرب" يحث فيه على محاربة الاستعمار واستنهاض الهمم، بالإضافة لبرنامج "بادية العرب" المخصص لبدو سيناء طالبا منهم الإخلاص لتقديم التعليقات السياسية الحماسية، الذي تطور لمساعدة الفدائيين فى حرب الاستنزاف بالتعاون مع المخابرات المصرية، من خلال إرسال شفرات لهم بهيئة رسائل لمد يد العون لهم.

في يوم 6 أكتوبر 1973، يروي نجله أن والده كان في الإذاعة يؤدي عمله بشكل عادي، ليتفاجأ بطلب وزير الإعلام حينذاك الدكتور محمد عبد القادر حاتم، من المذيعين المتواجدين عدم المغادرة واجتمع بهم وطالبهم بانتظار وقراءة كل ما يرد من بيانات من القيادة العامة للقوات المسلحة، واختاره حلمي البلك ليكون أول من يقرأ البيانات رقم "1 و 3 و5"، حيث إن الأخير عُرف بـ"بيان النصر"، واستمر يقرأ البيانات المختلفة في أيام الحرب التالية، والذي كان يعتبره "مصدر فخر" كبيرا بمسيرته وحياته.

إلقاء البيانات، لم تكن حدثا عاديا، حيث يروي أحمد البُلك، أنه أجريت عدة "بروفات" تحضيرية من أجل الوصول لنبرة صوت هادئة وليست انفعالية مثل ما حدث بالنكسة، فضلا عن مكوثه بالإذاعة لحوالي 6 أيام متواصلين، لإلقاء البيانات وإذاعة البرامج الخاصة بالحرب.

وقبل خروج إسرائيل من العريش بيوم واحد، كان البُلك أول من وصل إليها مع وفد إعلامى لتغطية عملية الانسحاب، حيث التقاه أبناء سيناء كـ"الأبطال"، وفقا للوصف الذي نقله لأبنائه، حيث قدم لهم ولأبنائهم الكثير من الخدمات، كما شهد وهم يرفعون أعلام مصر التى صنعوها من ثيابهم ليعبروا عن فرحتهم بجلاء إسرائيل عن أرضهم الغالية.

كما كان لحلمي البُلك نصيب في أن يكون ضمن الوفد الإعلامي الرسمي المصاحب للرئيس السادات فى زيارته الشهيرة إلى إسرائيل لتغطيتها، حيث جمعته الكثير من المواقف المميزة والودية مع بطل معركة العبور.

ومع عمله في التليفزيون وتقديم النشرات الإخبارية، ونتيجة تعاونه مع المخابرات وقت الاحتلال الإسرائيلي، فساهم في محاربة الإرهاب بمحاورته للمتطرفين وإقناعهم بخطر وخطأ ما يعتقدون وأخذ بيد التائبين من خلال برامج تليفزيونية أعدها لهذا الغرض، منها "ندوة للرأي" و "حوار مع التائبين" فنال استحسان الجميع على المستوى الرسمى والشعبي، وحاز وسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى، كما زرع في قلوب أبنائه "الإخلاص والصدق والمصداقية" في العمل، وفقا لحديث نجله أحمد البُلك.

حمدي الكنيسي: سجلت مع صائدي الدبابات.. والسادات سأل عني

دخل مجال الإذاعة مع سبق الإصرار والترصد، عقب تخرجه في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 1963، قبل أن يرفض الالتحاق بأي مجال آخر انتظارا لمسابقة الإذاعة، التي نجح فيها وعمل بالإذاعة، ليمهد له القدر مهمته الأعظم في تاريخه المهني حمدي الكنيسي نقيب الإعلاميين الأسبق، الذي شهد لحظات الضعف واليأس قبل حرب أكتوبر، وعايش حياة الجنود على الجبهة، وشهد على لحظات نشوة الانتصار، ليسجل في ذاكرته كواليس من ذهب يرويها لـ"الوطن" في ذكرى انتصار السادس من أكتوبر.

تمرد "الكنيسي" على دور مذيع التنفيذ، الذي أسند له من قبل "البرنامج العام"، وقدم طلبا لنقله إلى البرامج، وبدأ تقديم برامج ثقافية، ثم استمرت المسيرة حتى جاءت أهم محطاته المهنية والحياتية بشكل عام، وهي تغطية حرب 1973، التي يعتبرها أهم نجاحاته.

"بدأت التحرك وأخذت معي جهاز الإذاعة، وكنت أذهب يوميا من القاهرة إلى الجبهة بعد صلاة الفجر لأسجل لقاءات وبطولات مع جنودنا البواسل وأعود مع آخر ضوء إلى القاهرة لأفرغ تلك التسجيلات في مبنى الإذاعة والتليفزيون"، حسبما يقول الكنيسي.

يروي صاحب الـ79 عاما، أجمل أيامه على الجبهة، والتي لم ينسها قط، عندما كان يسجل مع صائدي الدبابات مثل فوزي المصري وإبراهيم عبدالعال والمجند عبدالعاطي، الذين كانوا يتنافسون على إبراز عدد الدبابات التى قاموا بتدميرها.

بعد مهمته البطولية ودوره في حرب 73، تقدم له وزير الإعلام آنذاك بترقية استثنائية من الدرجة السادسة إلى الرابعة، حين كان شابا في العشرينيات من عمره، وهو أمر عظيم لشاب مثله، ولكنه لم يرض بذلك على حد قوله: "قلت له أنا لا أريد ترقية استثنائية، أريد إنشاء نقابة للإعلاميين".

يتذكر نقيب الإعلاميين نجاحه في تلك الآونة، قائلًا إنّه أول وآخر إعلامي تذاع برامجه في إذاعتين رئيستين في وقت واحد، إذ كان يذاع برنامجه "صوت المعركة" في البرنامج العام، إضافة إلى "يوميات مراسل حربي" في إذاعة صوت العرب، ونجح الاثنان ومثلا أهم مراحل حياته الإعلامية والوطنية أيضًا.

نجاح برنامج "صوت المعركة" جعل لجنة إسرائيلية خاصة تبحث أسباب انتشاره بين العرب والفلسطينيين، ما جعل الرئيس الراحل محمد أنور السادات، يتصل بوزير الإعلام آنذاك، ليقول له: "حمدي الكنيسي ده اتكرم ولا لأ، ده قلب دماغ إسرائيل".


مواضيع متعلقة