كنت قد قررت ألا أضيّع وقتى وجهدى وألا أجرح هيبة الكتابة بالإلحاح فى نقد وتفكيك أكذوبة عبدالمنعم أبوالفتوح، فتوقفت بعد ثلاثة مقالات. أولاً: تبين لى أننى لست الوحيد الذى يكرهه، إذ ما جدوى كشف المكشوف وفضح المفضوح!. صحيح أن كراهيتى أقدم وأعمق -كونها نابعة من كراهيتى لجماعته الفاشية، الخائنة- إلا أن كراهية الآخرين أشد وطأة لأنهم خُدعوا فيه، وما زالت آثار كفّه «الطرية» مطبوعة على أقفيتهم. وثانياً: هناك مثل يقول إنك لست مضطراً أن تأكل البيضة كلها لتعرف أنها فاسدة. وقد أدركت بعد قراءة فاحصة لسجلّ أبوالفتوح السياسى والشخصى أننا أمام شخص يُصرّ فى كل مواقفه وآرائه على إعادة إنتاج أدواته: الميوعة والتمحك و«السلبطة» واللعب على كل الحبال. وقد بدا ذلك واضحاً فى حوار مع أبوالفتوح، أجراه الإعلامى المعتز «مندهش الدمرداش» على فضائية «الحياة حقنة»، التى يملكها ويتحكم فى «جرعاتها» ويستطيع إبطال «مفعولها» مولانا سيد البدوى (شى الله يا سيد يا بدوى!)، والذى سبق له أن أبطل مفعول حزب «الوفد»، وهبط بأدائه السياسى والجماهيرى من «نموت نموت وتحيا مصر» إلى مستوى طربوش المرحوم أحمد الصباحى.. ليصبح شعاره: «الحق فوق الإبرة.. والبنج مصدر الصفقات»!.
كان المقال الثالث تعليقاً على هذا الحوار. وكان رأيى أن إجابات أبوالفتوح تتسق مع طبيعته وحقيقة مواقفه السياسية. لكن أداء «مندهش الدمرداش» كان مرتعشاً إلى حد الاستفزاز، إذ كان ممكناً أن يجعل من ضيفه أضحوكة، وأن يعرى تناقضاته ويكشف الكثير من جوانب غموضه. وبصرف النظر عن الشبهات التى بدأت تحيط بـ«حياة» السيد البدوى -حيث استضافت كلاً من أسماء محفوظ ومنتصر الزيات بعد ذلك- فإن مخاوف الأخ «مندهش الدمرداش» أفسدت أداءه المهنى، وأضاعت عليه صيداً ثميناً!. وتقديرى أن هذه المخاوف تنبع من حقيقة أن لديه عقدة أو وسواساً قهرياً يجعله عازفاً عن الخوض فى بحر السياسة.. وكأن على رأسه «بطحة»!. وما من «بطحة» يمكن أن تخيف هذا «المندهش».. مثلما يخيفه انحيازه الذى كان فجاً وسافراً -ومبرراً بالطبع- للرئيس مبارك ونظامه. وهكذا يحاول جاهداً أن يتطهر من هذا الوزر: ليس فقط بالابتعاد عن السياسة، والإصرار على مناقشة موضوعات ذات طابع اجتماعى أو فنى أو حتى رياضى، وتجنب ذكر كل ما يمت إلى «مصر القديمة» فى برنامجه الطيب الحنون «مصر الجديدة».. بل أيضاً باسترضاء مرتزقة «25 يناير» وخطب ودهم.. بمن فيهم وعلى رأسهم بالطبع فلول الإخوان!.
على أية حال: هذا ليس مهماً.. المهم أننى أعود مضطراً -إنما أكثر استفزازاً- إلى هذا الـ«أبوالفتوح». فمنذ وقف أمام السادات وهو يحلم بالجلوس على مقعده، لكن الحلم بدا مستحيلاً بالنسبة لرجل وهب حياته لجماعة فاشية منبوذة، فكان لا بد من الاحتكام إلى ألاعيب السياسة، وهى بالطبع لا نهائية. وكغيره من الإخوان.. كشف بعد 25 يناير 2011 عن شخص مفرط فى الانتهازية والغطرسة، إذ أعلن فى مارس من العام نفسه -أى بعد حوالى شهر من تنحى مبارك- انشقاقه عن الإخوان. وفى العاشر من مايو 2012 قرر الترشح لانتخابات الرئاسة، وحصل بالفعل على حوالى أربعة ملايين صوت، لكنه خرج من السباق. وبفوز محمد مرسى بالمقعد عاد أبوالفتوح سيرته الأولى: «فاشى حار صيفاً.. ليبرالى ممطر شتاءً»!. ثم اندلعت ثورة 30 يونيو واقتلعت مرسى ونظامه الفاشل، فنزع قناع الليبرالية، وبدأ يطرح نفسه باعتباره «الممثل الشرعى» الوحيد المتبقى للتيار الإسلامى فى أى انتخابات رئاسية مقبلة، وأظن أنه لن ينالها.. حتى إذا خرج على الناس وأعلن أنه من الصحابة أو المبشرين بالجنة. وفى الثالث من نوفمبر الحالى -أى قبل أربع وعشرين ساعة من محاكمة رئيسه الخائن، الإرهابى، وأركان نظامه البغيض- «فقع» تغريدة على «تويتر» قال فيها: «المصريون الشرفاء ومنهم القضاة يبرأون من المحاكمة الهزلية لأول رئيس منتخب، ويلعنون كل من يشارك فى إهانة إرادة المصريين». وكان قد «فقع» تغريدة سابقة فى السادس من ديسمبر 2012 -أى عقب موقعة الاتحادية، المتهم فيها مرسى- قال فيها: «أنعى شباب مصر الذين سقطوا بالأمس أمام قصر الاتحادية.. مكتب إرشاد الإخوان المسلمين ارتكب جريمة تسببت فى إراقة الدماء.. المحاكمة واجبة»!. فهل شاهدتم تناقضاً وشيزوفرينيا أكثر من ذلك؟!. هل تعتقدون أن شخصاً كهذا يستحق كراهيتكم.. ولا أقول ثقتكم وتعاطفكم؟. هل يصح أن يظل بيننا: يتلون ويثرثر ويخطط و«يقرفنا» بحضوره الذى يشبه حضور «دكتور جيكل ومستر هايد»؟.
كنت قد قررت أن أكتفى من أبوالفتوح بثلاثة مقالات. أما وقد عاد يطل علينا بمواقفه وآرائه المائعة، المتناقضة، فإننى مضطر إلى وضع علامات استفهام حول مواقف وحقائق كانت ولا تزال خافية على كثيرين، وأهمها بالطبع حكاية انشقاقه عن الإخوان. فقد سُئل الأستاذ ثروت الخرباوى -وهو منشق أيضاً- فقال إن أبوالفتوح انشق عن «التنظيم»، لكنه ما زال منتمياً لـ«الجماعة». وبتوضيح أكثر: كان انشقاقه اضطراراً وليس اختياراً كما يدّعى، وكان نتيجة منطقية لسيطرة القطبيين على التنظيم، وسيطرة خيرت الشاطر تحديداً. والسؤال الذى كان يؤرق كهنة هذا التنظيم ويثير الشك حول أبوالفتوح: كيف يكون مناضلاً سياسياً وتربطه بأجهزة الأمن هذه العلاقات القوية؟.
الحقيقة أن أبوالفتوح كان بالفعل «صديقاً» لكثير من المسئولين والنافذين فى نظام الرئيس مبارك، خاصة مسئولى جهاز أمن الدولة السابق، وبينهم ضابط يدعى «أحمد أبوالدهب»، كان مسئولاً عن ملف الأحزاب فى الجهاز. وكان «أمن الدولة» يتعمد الإفراج عن أبوالفتوح فى «وقت محدد» ليتحالف مع محمد حبيب -قبل أن ينشق هو الآخر- فى مواجهة ما يسمى بـ«التيار القطبى». وعندما انشق حبيب لم يستطع أبوالفتوح أن يقف وحيداً فى هذه المواجهة الضارية، خاصة بعد أن تم تهميشه فى مكتب الإرشاد، ونجح القطبيون فى إطاحته من كل المواقع التى كان يشغلها فى التنظيم. وهكذا أصبح يُعامَل باعتباره «رجل أمن الدولة» فى «الإرشاد». أما ذمته المالية وملف علاقاته المريبة فهما موضوع المقال المقبل.