«عزيز قوم ذل».. ربات بيوت «مكرمات» سابقاً.. انتقلن إلى «رصيف الإحسان»

كتب: رحاب لؤى

«عزيز قوم ذل».. ربات بيوت «مكرمات» سابقاً.. انتقلن إلى «رصيف الإحسان»

«عزيز قوم ذل».. ربات بيوت «مكرمات» سابقاً.. انتقلن إلى «رصيف الإحسان»

لم تكن أى منهن تتصور أن الأحداث التى تمر عليها بإهمال فى التلفاز، وتغلقه سريعاً بضجر أو عدم فهم، ستقودهن من البيت الذى عشن به معززات مكرمات إلى رصيف خشن فى شارع بارد ومواطنين لا يلتفتون إليهن. على الرصيف الذى أصبح يضم العديد منهن، لا يستطيع المارة أن يفرقوا بين النسوة اللائى ينتمين إلى فئة «عزيز قوم ذل» وبين محترفى التسول الذين حفظ الناس وجوههم، اللهم إلا بفرق مميز، هو أنهن ينزوين فى شوارع جانبية، خشية أن يراهن أحد المعارف أو الجيران، يجلسن بإحراج وإرهاق، ولا يسألن الناس إلحافاً.. فقط صمت خجول وعبوتا مناديل فى اليد، والكثير من رفيقات الألم على نفس الرصيف وعلى الأرصفة المجاورة، يجلسن كدليل حىّ على ما آلت إليه أحوال البلاد. «عزة»: «عيالى الدنيا والغلا لاهيينهم وما بيعدوش عليا يرموا السلام» لا يتصور كثيرون أن السيدة المتشحة بسواد متسخ فى ركن الرصيف المزدحم بالإعلانات والغبار تعيش فى بيت «ملك» لها، كما لا يدرى أبناؤها أن والدتهم أصبحت تخرج مؤخراً مع كل صباح، فى طريقها إلى «الرصيف» تنتظر الإحسان. «عزة» لم يعد لها نصيب من اسمها، تبلغ من العمر أكثر من 70 عاماً، لم تستقبل العام الجديد بأمنيات أو هدايا، بل باكتشاف مرعب أنها لم تعد قادرة على إطعام نفسها، أو سد أموال علاجها، هى التى اعتادت العمل فى الفرن الذى امتلكه زوجها الراحل، قضت حياتها تحمل الخبز فوق رأسها، تنقله من مكان إلى آخر، لكنها ككل البشر أصابها الوهن والعجز، كفت قدماها عن حملها، وأصيبت فى إحداهما إصابة بالغة، عرضتها للبتر، فجلست فى البيت معززة مكرمة: «ابنى الكبير كان بيصرف علينا، وبنتى الكبيرة كانت بتراعينى، وجوزى كان واخد باله منى»، هكذا وصفت السيدة المسنة حال بيتها ونفسها خلال السنوات العشر الأخيرة، قبل أن يتوفى ثلاثتهم، تاركين إياها بين ألم المرض وعذاب الوحدة. للسيدة المسنة أبناء آخرون، لم ترهم منذ وقت طويل، لكنها تلتمس لهم العذر: «عيالى عايشين معايا فى نفس البيت، متجوزين ومخلفين، لكن الدنيا والغلا لاهيهم، ما بيعدوش عليّا يرموا سلام ربنا». تدرك عزة السبعينية مدى الغلاء والبلاء اللذين تمر بهما البلاد، وتعلم أنه لو كان فى إمكان أبنائها المساعدة لفعلوا: «اللى بيساعد ربنا، كل واحد عنده همّ ما يتلم»؛ لذا ومع بدايات عام 2013، توجهت السيدة فى صمت إلى رصيف فى منطقة المهندسين، تمد يدها لتستقبل الأموال، ولا تملك ما يجعلها تشترى مناديل درءاً للشبهة (الشحاتة) عنها، تجلس فى صمت، عيناها مغلقتان بفعل الالتهابات، ووجهها غائر فى طرحة سوداء ثقيلة بفعل البرد، وجسدها النحيل لا يظهر من السواد الذى تسربلت به. تشير إلى عصا عتيقة خلفها، وتقول: «ما عدتش أقدر أمشى غير بالعصاية دى، رجلى وجعانى أوى»، حين يسألها محترفو التسول فى المنطقة: «انتى بتعملى إيه هنا؟» ترد بصوت واهن: «مش لاقية حد يساعدنى، جيت لربنا». خمسة أيام فقط هى عمر نزول عزة إلى الشارع، لم تتعلم بعدُ كيف تجنى المال، صمتها وانزواؤها جعلاها وبعد يوم طويل فى البرد والأتربة بصحبة جنيه واحد، قبضت عليه يدها وكأنها اكتفت به، لم يكن هذا هو نهاية المطاف الذى تخيلته لنفسها، السيدة التى توجهت إلى الشئون الاجتماعية، لعلهم يقدمون لها معاشاً يكفيها شر السؤال، صدمتها إجابة الموظفين الذين لم يروا ملابسها الرثة وحالها البائس، فقالوا لها: «هنعمل عنك بحث، عشان لو عندك أطيان، ولا أملاك، مش هينفع تاخدى المعاش». فقدت السيدة الأمل؛ فالأوراق غير كاملة: «جوزى ما كانش عامل بطاقة كمبيوتر» وحاولت محاولتها الأخيرة على رصيف الإحسان، فكل ما تحتاجه هو 60 جنيهاً ثمناً لحقنة العظام الشهرية، وبعض المال لطعام لم يعد له طعم فى حلق مر. «ستيتة»: «باروح آخد 80 جنيه معاش باشوف ناس بتقبض 800.. بطنى بتوجعنى» لا تدرى ستيتة إبراهيم إن كانت تبلغ من العمر 56 أم 57 عاماً، الأيام سواء، كذلك السنوات، توفى زوجها منذ تسع سنوات، لكنها ظلت صامدة فى مهنتها القديمة (بيع الفجل والجرجير) كانت تشترى خضاراً فى اليوم بـ50 جنيهاً، وتكسب من هذه الكمية ما بين 10 و15 جنيهاً، تحمد الله عليها وتذهب إلى بيتها قريرة العين. فى أعقاب الثورة؛ حيث لم يعد هناك ضابط أو رابط، ارتفعت الأسعار، وارتفعت معها تكاليف الحياة بحيث لم يعد ربح الفجل والجرير يكفى شيئاً: «ما بقتش جايبة همها»، ظنت السيدة الخمسينية أن الثورة ستعيد لأبنائها حقوقهم فى بلادهم، وسيعثرون أخيراً على عمل، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، «عندى عيلين قاعدين مش لاقيين شغل، واحد صغير عنده 20 سنة، بيشتغل ساعات على توك توك، لكن من فترة طلعوا عليه جماعة ضربوه وكانوا عاوزين ياخدوا التوك توك، من ساعتها وهو نفسيته تعبانة، وابنى التانى متجوز وعنده عياله، فيهم اللى مكفيهم، مش ناقصينّى». على رصيف الإحسان تجلس «ستيتة»، التى تقول لمن يسألها عن اسمها: «اسمى قديم هو اللى فاضل من أيام زمان، غير كده ما عادش حاجة فاضلة، كل الدنيا فى الطالع، إلا البنى آدم هو اللى فى النازل»، لكنها مع ذلك لا تفقد الأمل، «ربنا ما بينساش حد، يخلق الحنك ويخلق معاه الرزق، ربنا يهدى لنا الحال، مُنى عينى يلاقوا شغلة لابنى». تحصل «ستيتة» على معاش تابع للضمان الاجتماعى، لكنه لا يكفى لشىء، فعلى الرغم من أنها تعيش بدورها فى بيت عائلة، لا تدفع له إيجاراً، فإن تكاليف الكهرباء والمياه والطعام والعلاج مأزق كبير، تقول: «بروح آخد معاش بلاقى موظفين وناس كبيرة بياخدوا 800 جنيه وألف جنيه، والله بطنى بتوجعنى، أصلى باخد 80 جنيه، زادوا شوية بعد الثورة، لكن يعملوا إيه وأنا عليَّا 6 شهور نور بـ120 جنيه؟». «هند»: «الحوجة وحشة.. لا عارفة آخد معاش ولا أرجع أبيع مناديل مع العيال الصغيرين» هند جمال، عمرها 22 عاماً فقط، لكنها تبدو أكبر من ذلك بكثير، مع كميات التراب المتراكمة على جسدها وولديها الاثنين، تجلس على رصيف بشارع السودان، لا يعلو صوتها الشاب بطلب المساعدة، فهى مشغولة باستمرار بمنع طفليها من النزول ناحية السيارات، تلاعبهما تارة، وتأخذهما فى حضنها تارة أخرى. كانت ربة منزل أيضاً، حينما تزوجت كان عمرها 14 عاماً، وأنجبت طفلاً وطفلة، فى كنف زوجها (فنى الماكينات) بدأت مأساتها مع أحداث الانفلات الأمنى والمرورى التى تلت الثورة؛ حيث تعرض زوجها لحادث تصادم على الكوبرى الدائرى أقعده فى المنزل، لتبدأ هند فى بيع أثاث بيتها جزءًا تلو الآخر، الأمر الذى دفع زوجها لمحاولة التصرف فإذا به يقع فى فخ المخدرات، ويدخل إلى السجن. عجزت «هند» عند دفع الإيجار وكان آخر وقت تقضيه فى ظل منزل هو رمضان الماضى، الذى تعرضت فى أعقابه للطرد، لتبدأ حياة لم تعهدها فى الشوارع. ابتسم لها القدر قليلاً حين رزقها بطبيب رق لحالها، وكفل لها غرفة فى دور أرضى تعيش فيها الآن، لكن دون أثاث، فقط «حصيرة وبطانية» داخل أربعة جدران، أما المصاريف اليومية فتتكفل بها الشابة من خلال «الرصيف»، تقول: «كنا عايشين كويس لحد ما حصلت الحادثة، الحوجة وحشة، والسجن أوحش، لا ينفع أروح آخد معاش، ولا عارفة أشتغل من العيال الصغيرين الاتنين، كنت ببيع مناديل فى الأول، لكن كانوا بيقطعوها ويرموها، بطلت أبيع وآدينى قاعدة». «عواطف»: «هو أنا بعمل حاجة غلط؟.. لو بعمل حاجة غلط قولولى» هيئتها وقورة، ووجهها صبوح متعب، وملابسها منمقة بسيطة، وصوتها منخفض هادئ، حينما تراها تعلم أنها تستحق وصف «عزيز قوم ذل»، اسمها «عواطف أحمد» وعمرها 71 عاماً، من سكان منطقة بين السرايات، بيتها فى مواجهة جامعة القاهرة العريقة، قامت بتربية أبنائها كما ينبغى، وارتضت برزق زوجها (الترزى) دون اعتراض، قدمت السبت لكنها لم تجد الأحد. شهران فقط هما عمر جلوسها فى الشارع، لم تكن تنزل من بيتها قط إلا إلى السوق أو لقضاء أغراض بيتها؛ فأبوها الذى علمها القرآن كان محافظاً للغاية، وزوجها على حد تعبيرها «صعب»، فاستوعبت هذا كله وتعاملت معه، إلا أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وقد تعرضت السيدة المسنة إلى الاختبار بشتى صوره، كانت البداية مع وفاة ابنها الأكبر، تاركاً ابنته أمانة فى عنق والدته، ثم إصابة ابنيها الباقيين، الأول بمشكلة نفسية والآخر بمرض فى المخ والأعصاب، حتى لم يعد ينقصها إلا أن يقعد المرض زوجها الترزى عن العمل، لتجد نفسها فجأة مسئولة عن البيت برجاله وبالحفيدة التى أصبحت فى المرحلة الثانوية. عواطف السبعينية بهيئتها الوقورة أرادت أن توفر أموال الدروس لحفيدتها، وأن توفر على حد قولها «فرخة وشوربة سخنة ورز ولاّ مكرونة، أعملهم فى البيت ياكلوا منها»، لكنها لم تقدم على خطوة النزول إلى الشارع إلا فى الشهور الثلاثة الأخيرة، حين أصبحت الدروس أمراً لا مفر منه، وأصبح الغلاء لا يُحتمل، حتى أصبحت تقضى النهار فى بيتها تعد الطعام وترتب المنزل، وما إن تحين الساعة الخامسة حتى تنزل إلى ذلك الموقع المنزوى فى محيط جامعة القاهرة؛ حيث تجلس صامتة تفكر وتنتظر: «علّمت ولادى الحمد لله، وكانت الدنيا ماشية برزق جوزى، كمان أبويا كان بيجيلى فى المواسم وبيساعدنى، عمرى ما احتاجت لحد، لكن بعد الأب والزوج ومع ولادى وحفيدتى واحتياجاتهم كان لازم أنزل على باب الله»، تتحدث عواطف التى تتساءل باستمرار: «هو أنا بعمل حاجة غلط؟ لو بعمل حاجة غلط قولوا لى». يمكنك مشاهدة الملف التفاعلي "العيشة واللي عايشينها" على الرابط التالي: http://www.elwatannews.com/hotfile/details/139 الأخبار المتعلقة: الصناعات الصغيرة والمتوسطة: أهملها.. وتوكل عمال مصنع سجاد: «بقينا نشترى التموين بالتقسيط».. بالتقسيط يا دكتور مرسى! رئيس اتحاد «جمعيات التنمية الاقتصادية»: الصندوق الاجتماعى «فقد ظله» أرجوك أعطنى هذا الدواء.. ادفع أولاً و«بعدين اتعالج» «وكالة البلح»: الطبقة المتوسطة مرت من هنا السياحة: شركات «مفلسة» وعمال «مشردون» وفنادق تسكنها «أشباح» مأساة «مرشد سياحى»: بيوتنا اتخربت خلاص صاحب إسطبل اضطر إلى قتل خيوله: «إحنا لاقيين ناكل؟!» رئيس «الغرف السياحية»: العنف المتوقع فى «ذكرى الثورة» سيقضى على الأخضر واليابس البورصة.. «فوائد» قوم عند قوم.. مصائب «أشرف» يحدثكم رغم الألم: كنت بلعب بالفلوس لعب! عجز الموازنة يتربص بـ«ودائع البنوك» الخبير الاقتصادى د. أحمد السيد النجار: تحويلات المصريين أنقذتنا من الإفلاس «دولار» بقوة «659 قرشاً» يضرب سوق العقارات.. ويكبدها خسائر فادحة مقاول بدأ رحلة نجاحه من «الصفر» قبل عشرين عاماً.. وعاد إليه فى «عهد مرسى» «فتحى وبدر وجابر».. 3 بأجر واحد «عبدالعزيز»: الحكومة توقفت عن طرح مشروعات جديدة الأرض تنتظر «رصاصة الرحمة».. و35% من الفلاحين يبحثون عن مهنة أخرى «القمح مش زى الدهب.. القمح زى الفلاحين.. عيدان نحيلة جدرها بياكل فى طين» «الغرفة التجارية»: نستورد 60٪ من الغذاء وتدهور الجنيه يضرب «الأمن الغذائى» فى مقتل صناعة الدواجن تتعرض لـ«الذبح» بـ50٪ انخفاضاً فى الإنتاج د. على لطفى: «المركزى» طبع 22 مليار جنيه فى أول شهر بعد الثورة دون غطاء نقدى.. وأتحدى أن «يكذّبنى» أحد