استخدم نجيب محفوظ وصف «الشركسكين» عند تحديد نوع «البدلة» التى كان يرتديها «عيسى الدباغ» بطل رواية «السمان والخريف» فى أول لقاء جمعه بخطيبته فى بيت أبيها العامر. يقول «محفوظ»: «فوقف الشاب ببدلته الشركسكين الناصعة البياض، وهو يقول: شكراً يا هانم». الأحداث فى رواية «السمان والخريف» تبدأ مع اندلاع حريق القاهرة (يناير 1952) وتمر بعدها بسنوات الثورة حتى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956.
ويبدو أن «البدلة الشركسكين البيضاء» لعبت دور البطولة فى هذا الزمن، ومثّلت قيمة خاصة لدى أفراد الطبقة الوسطى، مثل عيسى الدباغ بطل «السمان والخريف»، الذى كان يحرص على ارتداء بدلته البيضاء كأحد التعابير عن انتمائه للطبقة الوسطى، التى كان لها الفضل فى تحريك الأحداث أيام ثورة 1919، وتمكنت من احتلال مراكز مهمة فى دولاب الدولة خلال الفترات القليلة التى حكم فيها «الوفد» على مدار الحقبة الزمنية التى تمتد ما بين عامى 1919 و1952.
كانت البدلة «الشركسكين» تمثل رمزاً من رموز الوجاهة التى حرص عليها أفراد الطبقة الوسطى على اختلاف أطيافهم السياسية، بدءاً من الوفديين والأحرار الدستوريين، وحتى الشباب الذى بدا رافضاً للوضع السياسى برمته، كانت «البدلة الشركسكين» تحمل بالنسبة له رمزية خاصة، ودلالة على ما تختزنه نفسه من أشواق للصعود الاجتماعى.
فى كتاب «سيرة الحبايب» للمبدعة الكبيرة «سناء البيسى» تحكى عن مشاهد محاكمة الرئيس الراحل أنور السادات مع مجموعة من المتهمين باغتيال الوزير «أمين عثمان»، قائلة: «خلف القضبان، وفى ساحة محكمة الجنايات، وبعد عامين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً على حادث اغتيال أمين عثمان باشا، كان من بين المتهمين الذين قدموا لسماع الحكم عليهم، المتهم محمد أنور السادات، متميزاً فى الصور التاريخية بأناقته البالغة داخل الجاكتة الشركسكين البيضاء، والكرافتة السادة اللامعة والشارب المشذب بعناية».
البدلة «الشركسكين» كانت علامة الانتماء إلى الطبقة الوسطى، لم تكن كذلك بالنسبة لباشوات عصر مصر ما قبل الثورة، حيث كانت البدلة المفضّلة لديهم هى البدلة المصنوعة من الصوف الإنجليزى. انظر إلى «نجيب محفوظ» الذى اهتم بإبراز بدلة «عيسى الدباغ» الشركسكين، وهو يصف البدلة التى يرتديها شكرى باشا عبدالحليم بقوله: «عكس وجه الباشا اكفهراراً مغلفاً بهدوء الشيخوخة، وأعلنت بدلته الرمادية الإنجليزية عن أناقة عريقة».
البدلة الرمادى الإنجليزى كانت تمثل الزى الرسمى للنخبة الحاكمة أو المتحلقة حول الحكام، وكانت تمثل بصورة أو بأخرى نوعاً من التماهى مع المحتل، حتى لو كانت النخبة وفدية تريد التخلص منه، وتحلم بالجلوس بمفردها على منصة الحكم بعد إخراج المحتل من البلاد. فى المقابل كانت البدلة الشركسكين الزى الرسمى للطامحين، من أبناء الطبقة الوسطى، إلى الانخراط فى صفوف طبقة الحكم، ويبدو أنها كانت تمثل حلماً باستعادة السيطرة المملوكية الشهيرة «الجركسية» على السلطة، تماماً مثلما استعاد المماليك الجراكسة السيطرة على حكم مصر بعد هزيمة آخر سلاطينهم «طومان باى» أمام السلطان العثمانى سليم الأول عام 1517.