لا تحتاج إلى جهد بالغ، ووقت طويل، وفهم عميق، كى تدرك أن شبابنا صار منصرفاً عن القراءة إلا قليلاً، فجردة حساب لعدد الكتب التى تصدر كل عام، أو نظرة مديدة فاحصة فى عربة مترو لما يشغل الجالسين من اليافعين والشباب، أو ما يلفت انتباههم على شاطئ بحر فى أيام الصيف القائظ هذه، أو فى حرم الجامعات التى توزعت على خريطة الوطن من أدناها إلى أقصاها، وخلف أسوار المدارس الثانوية، أو داخل قاعات المكتبات فى الكليات، أو تلك الملحقة بقصور الثقافة فى كل مدننا، تكفى لتعرف للوهلة الأولى، وبالملاحظة المباشرة، أن الكتاب لم تعد له المكانة التى يجب أن تكون فى حياة الجيل الجديد.
وإذا عرفنا أن النسبة الغالبة على سكان بلادنا هى من الشباب، أدركنا، بشكل حاسم، وطأة ما نحن فيه، حيال المعرفة الحقيقية والعميقة والأصيلة التى تمنحها الكتب، ولا يمكن أن يهديها غيرها من وسائل المعرفة العابرة والسطحية والمشوهة والمبتورة التى يلقيها كثير من محركات البحث على شبكة الإنترنت، أو يتلقاها البعض سماعاً من غيرهم، أو من وسائل الإعلام التقليدية مثل المذياع والتلفاز.
وإذا تركنا الملاحظة السريعة، التى لا تخطئها العيون، ولا تنكرها الأذهان، وأجرينا استطلاع رأى على عينة ممثلة لهؤلاء الشباب، ستنتهى النتيجة، على الأرجح، إلى فجيعة تقول بوضوح وجلاء: إن مكانة الكتاب فى حياة الجيل الجديد قد تراجعت، حتى عن حالها قبل نصف قرن، أو يزيد أو يقل، وإن الكتاب صار عبئاً على كثيرين، لم يجدوا من يأخذهم إليه، ويعودهم عليه، فيألفونه، ويقبلون عليه بشهية مفتوحة إلى معرفة مبصرة.
هذا مرض اجتماعى وثقافى ليس هيناً عند من يقدر دور المعرفة فى بناء الأمم، ويرى الكتاب، مطبوعاً كان أو إلكترونياً، سواء كان معروضاً للأبصار أو مسموعاً للآذان، هو الأساس الذى ينبنى عليه العلم، وتقوم وفقه المعرفة الناجعة الناجزة. وإذا كنا نصنف أخطر أمراض الأبدان بين الناس فى بلادنا على أنها السرطان والأوبئة الفتاكة مثلاً، فإن أمراض الأذهان هى المعرفة الضحلة والمشوهة، التى يمثل الكتاب دواءها الشافى المُعافى.
سيقول قائل إن الجيل الجديد يفضل الكتب المسموعة والإلكترونية على المطبوعة، وعلينا أن نأخذ فى الحسبان تغير الوسائل والأذواق مع ثورة الاتصالات الرهيبة، لكن الإحصائيات المرفقة بأى كتاب يُتاح وفق الطرق المعاصرة تبدو ضئيلة جداً، إن قسناها بعدد الذين تخرجوا فى جامعاتنا فى العقود الأخيرة.
وسيقول آخر إن عوز الناس وفقرهم سيجعلهم يقدمون الطعام والشراب على الكتب، وهم يجلسون حائرين لتوزيع أوجه نفقات دخولهم ومرتباتهم الشحيحة، فى مجتمع يتراجع من الكفاية إلى الكفاف، لكن من صارت القراءة لديه من الضروريات وليست من التحسينات أو الكماليات، سيجد نفسه فى توتر وقلق شديدين إن لم يقرأ، كحاله إن جاع أو عطش أو تعرّى.
لكن بلوغ هذا المقام الرفيع لا يُؤتى بين عشية وضحاها، إنما هو مسار طويل شاق، وعملية متكاملة معقدة، وإن شئنا قلنا إنها خطة يجب ألا تغيب عن عين أى سلطة أو حكومة أو إدارة، إن كانت ترى أن المعانى تكون قبل المبانى، وأن بناء العقول والنفوس يجب أن يسبق بناء الأجسام، وأن المورد البشرى هو العصب الرئيسى لأى تنمية.
ولا أجد أى خطة لصناعة مجتمع يقرأ يمكنها ألا تبدأ من التعليم، فتعليم يجرى بشكل آلى، غير منشغل بتحصيل معرفة عميقة، ولا يلتفت القائمون عليه إلى تدريب أبنائنا على القراءة منذ الطفولة، هو أشبه بطحن الفراغ، أو الحرث فى بحر، فنحن لا نتعلم لقنص وظائف أو حرف فقط، إنما نتعلم أيضاً لنتحضر ونرتقى ونفهم ونعى ونتعايش ونشارك وننخرط، وكل هذا لا يمكن أن يتم إلا إذا انتهى هذا الفصام النكد بين التعليم والثقافة.
لتعد إلى مدارسنا «حصة المطالعة» فى مختلف المراحل التعليمية، ولتزود بالمكتبات، من الابتدائية إلى الجامعة، ولنُعد المعلمين النابهين المثقفين القادرين على أن يحضوا، بل يحرضوا، أولادنا، بلا كلل ولا ملل، على القراءة بلا حدود وفى كل اتجاه، وليكن هذا اليوم وليس غداً.