قبل نحو عام ونيف من الآن كان خطاب نعى الدولة الوطنية قد بلغ أوجّه، وكان هناك من يمهد وينظر لبداية مرحلة تاريخية جديدة ستشهد فى نهايتها تشييع مفهوم الدولة الوطنية إلى مثواه الأخير، تعددت أسباب هؤلاء المنظرين لكنهم انتهوا إلى النتيجة ذاتها، وهى أن الدولة الوطنية بمفهومها التقليدى ووظائفها التقليدية كذلك إلى زوال وإن طال الزمان، وأن بداية النهاية قد أوشكت، هناك من استشهد بتنامى تأثير الفعالين من غير الدول كالشركات متعددة الجنسيات أو التكتلات الاقتصادية كالاتحاد الأوروبى والمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدنى، وهناك من دلل على رأيه بتراجع دور المؤسسات العامة مقابل تعاظم دور القطاع الخاص فى كثير من الدول وهيمنته على وظائف تقليدية كانت حكراً على الدولة، حتى فى أكثر المجالات أهمية وحساسية كقطاعات التعليم والصحة وغيرهما، وهناك من استشهد بتمزق أوصال بعض الدول تحت وطأة ما تعانيه من فقر أو مجاعات أو حروب أهلية أو نزاعات إقليمية أو أطماع خارجية أو مؤامرات داخلية وقفزت من هذه الحالات الخاصة إلى تعميم متشائم حول مصير الدولة الوطنية خارج مناطق النزاعات، وأكثر الآراء تفاؤلاً وأقلها تشاؤماً كانت ترى أن الدولة الوطنية وإن نجت من هذه الرياح العاتية التى تحيطها من كل جانب فإن بقاءها سيكون بسيادة منقوصة وبصيغة جديدة ووظائف جديدة تختلف كلية عما عهدناه فى الوظائف التقليدية لهذه الدولة، تناست هذه الآراء وربما تكون تجاهلت عن عمد نماذج كثيرة لدول استطاعت أن تصمد فى وجه كل محاولات هدم أركانها وأن تستمر فى ممارسة وظائفها وأدوارها، وأخرى استطاعت أن تصعد وأن تعظم من نفوذها وحضورها داخل حدودها وخارجها رغم كل المصاعب والتحديات.
إلى أن هبت علينا فجأة جائحة كورونا دون سابق إنذار أو استعداد أو توقع لحجم تأثيرها الذى تجاوز الحيز الصحى ليضرب بقوة فى كل المجالات، اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى التفاعلات الدولية لم تنج من هذا التأثير المهول لهذا الفيروس الصغير، فإذا به يغلق حدوداً بين دول لم تغلق من قبل حتى تحت وطأة أزمات سياسية طاحنة، وإذا به يفعل فى العالم ما لم تفعله الحربان العالميتان، لكن ربما تكون من الآثار الإيجابية القليلة لهذه الجائحة أنها أعادت الاعتبار للدولة الوطنية ولوظائفها التقليدية وأثبتت أنه لا غنى عنها، فبعد أن بدا أن حجم الأضرار الناجمة عن هذه الجائحة فاق كل التوقعات تيقن الجميع أن لا أحد غير الدولة قادر على مواجهته، وهنا كانت الدولة فقيرة أو غنية هى المدعو الأول لإنقاذ مواطنيها وخوض الحرب ضد هذه الجائحة واتخاذ ما يلزم من إجراءات لمواجهتها، وهنا أنصت الجميع ورحب والتزم بما أصدرته الدول وأجهزتها ومؤسساتها من توصيات وما فرضته من قيود على مواطنيها لمواجهة هذا الخطر الداهم من حظر للتجول وقواعد صارمة للتباعد الاجتماعى ومن إغلاق شامل أو جزئى للاقتصاد ومن تعليق للطيران ومنع من السفر والتنقل ومن إغلاق للحدود.. إلخ، بل هناك من وجَّه اللوم لبعض الدول أنها لم تتخذ إجراءات ولم تفرض قيوداً أكثر صرامة فى هذه المواجهة، حظيت هذه الإجراءات التى اتخذتها الدول فى هذه المواجهة بما يشبه الإجماع، فالجميع أذعن والتزم، ولم يظهر أحد يتباكى على المكتسبات ومساحة الحريات الشخصية المزعومة التى زحفت عليها الدولة وقيدتها للصالح العام، بل على النقيض تماماً، دفع دور الدولة الوطنية فى مواجهة الجائحة وتداعياتها وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كثيراً من المفكرين والمنظرين إلى مراجعة أفكارهم ومعتقداتهم التى كانت تمقت الدولة أو تنادى بتقليص دورها أو ترى أن دورها قد انتهى بالفعل أو أنه إلى زوال.