فى الجزء الأول من هذا المقال قلنا إن القدرات المالية هى ما تفسر استمرار خطر «داعش» رغم انتهاء حلم دولته، وهناك الكثير من التقارير الاستخباراتية التى ربما تكون قد توقعت أو تنبأت باستمرار خطورة التنظيم بعد إعلان هزيمته قبل أكثر من ثلاث سنوات بالنظر إلى حجم ما يمتلكه من أموال قد تمكنه من استئناف تنفيذ مخططاته، وهو احتمال كان يخشى من حدوثه فى سوريا بعد قرار إدارة ترامب سحب القوات الأمريكية من هناك، وهو الأمر الذى يتجلى الآن بقوة فى مناطق سوريّة متفرقة تنشط فيها عمليات الاغتيال التى ينفذها التنظيم الإرهابى، وفى العراق يخشى مسئولوه من أن تساعد الأموال المتبقية لدى «داعش» فى تمويل العنف المتصاعد فى المحافظات العراقية الشمالية القريبة من الموصل وكركوك، مستشهدين على ذلك بأنه بعد مرور أقل من عام على تحرير تلك المناطق، نفذ الإرهابيون عشرات من عمليات الاغتيال والتفجيرات، كان معظمها يستهدف زعماء القبائل والحكومة وضباط الشرطة، وهى العمليات التى عادت بقوة خلال الأشهر القليلة الماضية، وكل هذا جزء مما يخشى المسئولون العراقيون من أنه تحول تنظيم داعش إلى حركة تمرد غامضة يصبح تحديدها ومواجهتها أصعب مستقبلاً.
وبعيداً عن سوريا والعراق، هناك تقارير دولية كثيرة تحذر من أن خسارة التنظيم لمعاقل نفوذه التقليدية لا تعنى نهايته ولا تعنى انتهاء جهوده فى استقطاب عناصر جديدة تمكّنه من الحفاظ على فكره ونشاطه، وإنما قد تكون تلك الخسارة مجرد إيذان ببدء مرحلة جديدة يعيشها تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية، ويسعى فيها لإعادة تموضعه جغرافياً بحثاً عن ملاذات آمنة جديدة ومناطق انتشار مغايرة تمكنه من البقاء، مثل مناطق عدة فى أفريقيا وجنوب شرق آسيا، ومن أبرز التقارير الدولية التى تُعنى برصد أبرز الاتجاهات العالمية والإقليمية للتهديدات الإرهابية وتطوراتها وتجلياتها كان تقرير «مؤشر الإرهاب العالمى» الذى يصدر عن «معهد الاقتصاد والسلام» الأمريكى ويرصد ويحلل آثار وتداعيات الإرهاب فى 163 دولة تغطى نحو 99% من سكان العالم، هذا المؤشر انتهى فى نسخة عام 2018 إلى أن هناك توجهاً عاماً طغى على التنظيمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة بضرورة التحرك بعيداً عن مناطق الصراعات التقليدية، مثل منطقة الشرق الأوسط، وضرورة إعادة الانتشار جغرافيّاً، والتموضع فى مناطق جديدة بعيدة عن دائرة الضوء بما يمنح تلك التنظيمات حرية أكبر فى الحركة، وهامشاً أوسع للمناورة، وهنا أشار التقرير إلى ثلاث مناطق رئيسية باتت تحظى باهتمام التنظيمات الإرهابية لا سيما داعش، اثنتان منها فى أفريقيا والثالثة فى آسيا، وهذه المناطق هى: منطقة الساحل الأفريقى التى أصبحت تشهد تنافساً على النفوذ بين تنظيمى «القاعدة» و«داعش»، ومنطقة الحزام الأوسط فى نيجيريا التى تشهد صراعاً على الموارد والمراعى بين المجموعات الموجودة فى المنطقة، ومنطقة جنوب شرق آسيا التى تشهد موجة جديدة من الإرهاب تتزعمه المجموعات التابعة لتنظيم «داعش» والحركات الانفصالية فى دول تلك المنطقة.
وقد أثبتت أحداث العامين السابقين مدى مصداقية ما انتهى إليه هذا التقرير بعد أن تبنى داعش مسئولية الكثير من الأعمال الإرهابية الدامية التى جرت فى دول مثل سيرلانكا والفلبين ونيجيريا ومالى.
الخلاصة هنا هى أن «داعش» ما زال يشكل تهديداً كبيراً وجدياً على أمن العالم واستقراره، وخطره لا يزال حاضراً، وخطورته لا تزال قائمة، والتسليم بأن داعش انتهى، واتخاذ قرارات بناء على هذا الافتراض الخاطئ، هما أكبر هدية يمكن تقديمها لهذا التنظيم الإرهابى، فهذا منتهى مراده وأكثر ما يصبو إليه؛ تخفيفاً لما عليه من ضغوط، وتحيُّناً لفرصة يلتقط فيها أنفاسه ويستوعب فيها خسائره ويعيد تنظيم صفوفه فى مناطق وجوده التقليدية، ويرسخ فيها وجوده فى بؤر انتشاره الجديدة.
لذا فإن هناك مسئولية كبيرة لا تزال قائمة على التحالف الدولى لمحاربة داعش، واستمرار هذا التحالف لا يجب أن يكون أمراً محل نقاش، ومهمته لا يجب أن يطالها أى تغيير مع التغير الذى شهدته الإدارة الأمريكية الشهر الماضى، فـ«داعش» لم ينتهِ، لذا لا يجب أن ينتهى التحالف الذى نشأ من أجل محاربته.