طرح الرئيس السيسى، فى رؤيته للمستقبل، قضية «الإصلاح المؤسسى»، مؤكداً أنه شرط مهم وضرورى لإمكان تحقيق عناصر الرؤية التى بلغت ثلاثين عنصراً، وأن الخطر الذى يهدد الوطن، والذى كاد يصل إلى حد انهيار الدولة وتفككها وسقوطها فى هوة الحرب الأهلية فى مرحلة حكم المعزول، لا يمكن مواجهته إلا عن طريق بناء مشروع وطنى ديمقراطى يعمل على تسريع إيقاع تحديث الدولة ومؤسساتها حتى تستطيع مواجهة التحديات فى الداخل والخارج.
وحين تحدث الرئيس عن تحديث الوطن أكد أنه «لن يتم التحديث الحقيقى سوى باعتبار العنصر البشرى هو القاطرة الحقيقية للتقدم، والاستثمار فيه استحقاق ينجزه الوطن بتعليمه ورعايته صحياً ومجتمعياً وتفجير طاقات الإنتاج والإبداع لديه، وخلق بيئة مناسبة للعمل تحفظ حقوق الجميع وتضع قواعد للثواب والعقاب، فتحاسب المقصر وتكافئ المجتهد، واعتبار كل ذلك ركائز النظام المجتمعى، مع تعقب مواطن الفساد ومحاربتها وفق قواعد قانونية منضبطة».
وأكد الرئيس أن من الركائز الاستراتيجية لتحقيق رؤيته للمستقبل القضاء التدريجى على الفقر وتحقيق تحسن سريع وملموس فى جودة الحياة لجميع المواطنين. واستحداث خريطة إدارية واستثمارية جديدة لمصر، تستفيد من كامل مساحتها وطاقتها وتستهدف التنمية الشاملة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق طفرة صناعية وزراعية تستحقها مصر، والاستغلال الأمثل لكل موارد مصر مع الحفاظ على حقوق الأجيال المقبلة.
وكان الإصلاح المؤسسى الشامل للجهاز الإدارى للدولة من الركائز الاستراتيجية للرؤية حتى تتحقق الكفاءة فى الأداء ويُقضى على الفساد. وأوضح الرئيس أن الإصلاح المؤسسى الشامل عنصر فى «منظومة متكاملة وعلى نفس درجة الأهمية، يجب أن يكون هناك تفاعل وتكامل بينها فى التنفيذ، ولكل منها مجموعة من البرامج الفنية، ومجموعة من المشاريع سيتم تنفيذها تدريجياً على المدى القصير والمتوسط والطويل لكى تحقق جميع أهدافها».
وهنا بيت القصيد، إذ إن عنصراً أساسياً فى فشل الدولة المصرية عبر سنوات طويلة كان هو تكلس البناء الإدارى للدولة وانفصامه إلى جزر منعزلة لا يربط بينها خطة ولا رؤية مشتركة. وكان الفشل شائعاً على كافة المستويات فى جهاز الدولة الإدارى من قمته إلى قاعدته. وكان ذلك الفشل سبباً دائماً فى شيوع حالات البطالة المقنّعة للموارد البشرية فى الحكومة ومؤسسات الدولة، والتراخى فى إنجاز المهام وبطء معدلات التنفيذ فى مشروعات التنمية، وإهدار الموارد المالية والمادية وعدم تحقق العوائد التى كان المسئولون فى دوائر الحكم، وما زالوا، يروجون لها بغير الحقيقة.
ثم كان انتشار صور الفساد المختلفة من رشاوى، والخروج عن صحيح القانون، وتضارب المصالح، نتيجةً أساسية لترهل الجهاز الإدارى فى الدولة سواء على المستوى المركزى ومستوى المحليات.
ولعل أوضح مثل على الفشل فى إصلاح وتطوير الجهاز الإدارى للدولة هو عدم وجود قواعد تنظيمية واضحة ومستقرة لتشكيل الحكومة وتحديد الهيكل الحكومى الأساس من وزارات وما يتبعها من أجهزة مركزية ومجالس عليا ومصالح وهيئات عامة وقومية. وقد كانت التشكيلات الوزارية، وما زالت، فرصة سانحة لممارسة كل أشكال العبث الإدارى بهيكل الحكومة، فقد كانت تلك التشكيلات الحكومية تتم من دون توضيح القواعد أو المنطق الذى يقوم عليه التشكيل أو التعديل. ولا ينحصر غياب القواعد والضوابط والتعتيم على أشخاص رئيس مجلس الوزراء والوزراء فقط، بل الأمر الأخطر هو فى افتقاد المنطق فى تحديد مجموعة الوزارات التى يتضمنها التشكيل، أو يصيبها التعديل. إن قراءة سريعة للتشكيلات الوزارية الأخيرة منذ 25 يناير 2011 تدلنا على أن هناك مجموعة من الوزارات أو وزارات الدولة هى دائماً عرضة للتبديل وعدم الاستقرار سواء كان ذلك بالإنشاء ثم الإلغاء أو الدمج فى وزارات أخرى ثم إعادة فصلها، ناهيك عما يتبع ذلك من تنظيم وإعادة تنظيم وتداخل فى الاختصاصات وتصارع على الصلاحيات فضلاً عن الخلل وعدم الاستقرار اللذين يصيبان الأجهزة والهيئات التابعة لتلك الوزارات غير المستقرة.
وحتى بعد ثورة 30 يونيو، ورغماً عن أن الرئيس السيسى قد أصدر رؤيته لمستقبل الوطن، فما زال التشكيل الحكومى الأول فى عهده يتم فى غيبة عن الرأى العام صاحب المصلحة الأساسية، ورغم أن وزارة المهندس محلب المستقيلة لم يمض على تشكيلها أكثر من أربعة شهور فإن تشكيل حكومته الجديدة لا يزال يتعثر بين عمليات إنشاء وإلغاء ودمج وفصل الوزارات وتعديل أسمائها، وهذا كله لا يصب فى خانة تعظيم قدرة الحكومة على تنفيذ رؤية الرئيس وبرنامجه الطموح الذى يترقبه الناس فى المحروسة.
ويلاحظ أن قرارات تشكيل الوزارات لا تتم حتى الآن، ومع وجود خارطة واضحة للمستقبل تضم ثلاثين محوراً، حدد الرئيس السيسى أنها يجب أن يتم تنفيذها بالتوازى بناء على دراسات أو فى إطار توجهات استراتيجية وبرامج عمل محددة، ومن هنا تأتى التشكيلات الوزارية غير مستقرة ولا واضحة المعالم. من جانب آخر، تُعلَن التشكيلة الوزارية الجديدة بمجرد موافقة رئيس الجمهورية عليها ومن دون إتاحة أى فرصة للرأى العام لمناقشتها وإبداء الرأى بشأنها، بل يفاجأ الجميع بحكومة جديدة أو تعديلات فى حكومة قائمة دون إبداء الأسباب، فلا يعرف أحد أسباب إنشاء أو إلغاء الوزارات ودمجها وفصلها، أو أسباب اختيار الوزراء الجدد وخروج الوزراء القدامى.
لقد كنا نمنّى أنفسنا بحكومة جديدة يتم تشكيلها على أسس منبثقة من رؤية الرئيس، وكفاءات يتم اختيارها وفق معايير واضحة وشفافة، لتجتهد من أول يوم فى تنفيذ رؤية الرئيس فى الإصلاح المؤسسى الشامل، خاصة وقد سبق أن ألزم المهندس محلب نفسه بأن يكون الإصلاح الإدارى الشامل ومكافحة الفساد على قمة أولوياته حين شكّل حكومته الأولى وهو ما لم يحدث!!
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن.
حمى الله مصر.