"جون رابي".. الألماني الذي أنقذ ربع مليون صيني في الحرب العالمية الثانية

كتب: محمد علي حسن

"جون رابي".. الألماني الذي أنقذ ربع مليون صيني في الحرب العالمية الثانية

"جون رابي".. الألماني الذي أنقذ ربع مليون صيني في الحرب العالمية الثانية

لم تمنعه عضويته بالحزب النازى من أن يصبح بطلاً، بعدما أنقذ حياة أكثر من 200 ألف مواطن صينى من الممارسات الوحشية للجيش الإمبراطورى اليابانى، خلال حملته على مقاطعة «نانكينج»، عام 1937، بتأسيسه أشهر منطقة آمنة فى الحرب العالمية الثانية.

ولد «جون رابى» فى الثالث والعشرين من نوفمبر عام 1882، لوالد يعمل قبطاناً على إحدى السفن التجارية، قبل أن يفقده فى سن مبكرة، ليبدأ فى التدريب المهنى بمسقط رأسه، ثم يتجه للعمل فى شركة بريطانية تعمل فى مستعمرة برتغالية بقارة أفريقيا، ويعود عام 1906 مرة ثانية إلى ألمانيا بسبب إصابته بـ«الملاريا».

فى الثانى من أغسطس عام 1908، سافر جون رابى إلى بكين على خط السكة الحديد عبر سيبيريا، وفى الخامس والعشرين من أكتوبر 1909 تزوج من حبيبته «دورا شوبرت» فى شنغهاى.

وفى أواخر عام 1911، نفذت شركة «سيمنز» أول محطة تلغراف فى الصين، ثم محطة ثانية فى شنغهاى، وفى شتاء العام ذاته، شغل جون رابى منصب محاسب ومساعد فى شركة «سيمنز» فى بكين، قبل ترقيته إلى منصب مدير مكتب بكين، وعمل أيضاً فى «تيانجين» و«نانكينج».

وبعد أن أعلنت الصين الحرب على ألمانيا فى 14 أغسطس 1917 ضمن أحداث الحرب العالمية الأولى، واجه السكان الألمان الذين يعيشون فى الصين أوقاتاً عصيبة، ومع ذلك كان «رابى» وأصدقاؤه قادرين على الاعتماد على المساعدة الودية من الصينيين، خلال هذا الوقت الحرج.

ومع «استعادة الإمبراطورية» على يد الزعيم الصينى تشانج شون، فى عام 1917، كانت هناك الكثير من المعارك النارية فى بكين، وفى ذلك الوقت، كان «رابى» يؤوى الكثير من اللاجئين الصينيين فى منزله وعرض عليهم المأوى والطعام.

وفى 11 نوفمبر 1918 خسرت القوى المتحالفة «ألمانيا والنمسا» الحرب واستسلمت برلين، وتم طرد «رابى» وجميع الألمان الآخرين إلى بلادهم، وفى بداية مارس 1919 عاد إلى هامبورج مع زوجته وطفليه، اللذين كانا بين سنتين وثمانية أعوام.

«بعد أن استأنفت ألمانيا والصين العلاقات الدبلوماسية فى عام 1921، عاد جدى إلى بكين، وأصيب بالدهشة حيث وجد المنزل وممتلكاته دون تغيير ولم ينهب منها أى شىء»، حسب رواية «توماس»، حفيد جون رابى لـ«الوطن».

ووفقاً لشهادات أهالى «نانكينج»، التى حصلت «الوطن» على نسخة منها، كان جون رابى مشهوراً ويتسم بالتميز لدى موظفيه وزملائه، ويتذكر البروفيسور تشانج ويليان، من جامعة نانكينج، الموظف السابق جون رابى قائلاً: «لقد تعاون رابى بشكل جيد مع زملائه الصينيين وكوّن صداقات بسهولة».

نقلت شركة سيمينز مقرها الرئيسى إلى «تيانجين»، فى عام 1925، لتغطية متطلبات الموظفين لمحطة الهاتف الآلية الجديدة، ونقل جون رابى إلى «تيانجين» كرئيس التمثيل المحلى، وتزوج أحد موظفيه من ابنته مارجريت، وأقيم حفل الزفاف فى أغسطس عام 1930 فى كنيسة البلدة.

وفى عام 1930 تم تعيين جون رابى مديراً لمكتب «نانكينج» من قبَل المكتب الرئيسى لشركة «سيمنز» فى شنغهاى، وكان يعيش مؤقتاً فى مبنى مؤجر من طابقين فى حى شياجوان، وعمل كمسئول عن بيع معدات الاتصالات وأنظمة الإنذار ضد الهجمات الجوية وأنظمة الهاتف، وفى الوقت ذاته كان أيضاً رئيساً لجمعية التجار ومدير مدرسة ألمانية.

أحب جون رابى العيش فى «نانكينج»، وكان يحبها بعمق، لماضيها الطويل وأصالتها، ويومياته تشهد على ذلك، حيث كانت الصين موطنه الثانى، وكتب ذات مرة: «فى هذا البلد، أمضيت أفضل سنوات شبابى، هنا ولد أولادى وأحفادنا، وحققت هنا نجاحاً مهنياً، وهنا استمتعت بكرم مواطنى الصين».

وفى 7 يوليو 1937، دارت معركة بين القوات الصينية واليابانية عند جسر «لوجو»، التى اعتبرت بداية مبكرة للحرب العالمية الثانية داخل قارة آسيا، كان هذا يمثل بداية تقدم القوات اليابانية إلى الجنوب، فيما بدأت معركة «شنغهاى» فى 13 أغسطس، وفى 12 نوفمبر بعد قتال عنيف، استولت القوات اليابانية على «شنغهاى»، وكان من المتوقع حدوث غزو فى العاصمة آنذاك «نانكينج».

بنى جون رابى ملجأ للغارات الجوية فى حديقته لموظفيه وجيرانه الصينيين، بالإضافة إلى ملجأ الغارة الجوية، فى سبتمبر 1937، وربط جون رابى علماً طوله 6 أمتار وعرضه 3 أمتار مع الصليب المعقوف، كان تحذيراً لليابانيين بعدم قصف هذا المكان لأن الألمان يعيشون هنا، وعن حقيقة أن اللاجئين كانوا ينامون تحت العلم فى الليل، كتب فى مذكراته: «هذا المكان يُعتبر مقاوماً للقنابل اليابانية».

فى نوفمبر من عام 1937، انضم حوالى 20 أجنبياً لتأسيس منظمة إغاثة، على غرار المنطقة الآمنة للاجئين فى منطقة نانشى بشنغهاى، وكان من بينهم أمريكيون من مدارس تبشيرية وبريطانية وألمانية من دوائر أعمال ورجل أعمال دنماركى، كان الهدف المعلن هو مساعدة السكان فى أوقات الحرب وتوفير الحماية ضد القصف اليابانى على وجه الخصوص، أطلقوا على هذه المنظمة اسم اللجنة الدولية للمنطقة الآمنة فى نانكينج، وعينت اللجنة جون رابى رئيساً لها.

عقب الاستيلاء على المدينة بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب اليابانية الصينية فى 12 ديسمبر 1937، حولت القوات اليابانية المدينة لحمام دم، لأكثر من ثمانية أسابيع، كانت هناك عمليات إعدام جماعى واغتصاب منتظم، تفترض التقديرات حوالى 300000 حالة وفاة.

استضاف حوالى 650 شخصاً فى حديقة منزله لحمايتهم من القصف

استضاف «رابى» أكثر من 650 شخصاً فى منزله والحديقة الملحقة به بمساحة (500 متر مربع)، وأطلق عليه الصينيون لقب «الإنسان صاحب قلب بوذا الحى».

أبلغ «رابى» وأعضاء آخرون فى اللجنة القيادة العسكرية اليابانية فى شنغهاى حول المنطقة الآمنة فى نانكينج، وأعطوهم خريطة للمنطقة يطلبون منهم عدم مهاجمة المنطقة، فى وقت لاحق، تم العثور على هذه الخريطة بين الجنود اليابانيين الذين شرعوا فى غزو نانكينج.

فى يومه الثانى كرئيس للجنة الدولية للمنطقة الآمنة فى «نانكينج»، كتب جون رابى دعوة إلى أدولف هتلر للحصول على دعمه للمنطقة فى نانكينج.

عقدت اللجنة الدولية للمنطقة الآمنة فى الأول من ديسمبر 1937 اجتماعاً فى نانكينج لتحديد واجبات مختلف الأعضاء، فى نفس اليوم، قام ما تشوجون، عمدة المدينة، بنقل إدارة المدينة إلى إدارة الشئون الداخلية، فى اللجنة المؤقتة، وسلم أكثر من 30000 كيس من الأرز، و10000 كيس من الدقيق، وبطاقات حصص للملح، ووعد بمبلغ 100000 يوان نقداً، بالإضافة إلى 450 من رجال الشرطة لمساعدة اللجنة.

نصحت السفارة الألمانية جون رابى بمغادرة «نانكينج» عدة مرات خلال هذا التوقيت، إلا أنه قرر البقاء بغض النظر عما سيحدث، وقال جملته الشهيرة للدبلوماسيين فى السفارة «لا يمكننى التخلى عن الأصدقاء المحتاجين، منذ 30 عاماً لم أجد سوى كرم الضيافة لهذا البلد وشعبه، أعتقد أنه من المناسب ألا نتخلى عن الصينيين فى وقت محنتهم».

بعد مغادرته نانكينج فى فبراير 1938 بناء على أوامر من شركة سيمنز، حاول «رابى» لفت الانتباه إلى جرائم الحرب اليابانية فى برلين من خلال إلقاء المحاضرات.

أرسل «رابى» تقريراً لأدولف هتلر لإقناعه بالتأثير بشكل معتدل على اليابانيين ومنعهم من فعل المزيد من الفظائع، ما أدى إلى إلقاء القبض مؤقتاً عليه من قبََل قوات «الجستابو»، التى استولت على أفلام توثق مذبحة «نانكينج»، صورها المبشر الأمريكى جون ماجى.

على الرغم من السماح لجون رابى بالاحتفاظ بمذكراته حول الحرب فى «نانكينج»، إلا أنه مُنع من إلقاء المحاضرات وكتابة المقالات التى تكشف فظائع اليابانيين فى الصين.

حولت الظروف المعيشية فى برلين، خلال سنوات الحرب وما بعدها، بالإضافة إلى مرض السكرى الذى داهمه منذ سنوات طويلة، أسرة «رابى» من المستوى الاجتماعى الراقى، إلى أسرة تعيش على حد الكفاف.

حفيده لـ"الوطن": خسر وظيفته ومات فقيراً يصارع المرض.. وأنقذه عمله الإنسانى من المحاكمة ككادر فى الحزب النازى

لم يخضع «رابى» مثل غيره للمحاكمة عام 1946 بتهمة أنه كان كادراً مهماً فى الحزب النازى، بعد تقدمه بالتماس للبريطانيين بعد الحرب يستند إلى عمله الإنسانى فى نانكنيج، وكان باستطاعته العمل لدى شركة سيمنز مرة أخرى ولكن كمترجم نظراً لأنه كان يتقن 5 لغات وأعفى من أى منصب به مسئولية.

توفى جون رابى مريضاً وفقيراً فى الخامس من يناير عام 1950 فى برلين إثر إصابته بسكتة دماغية ودُفن فى مقبرة «القيصر فيلهلم» التذكارية فى برلين، وأهدت بلدية «نانكينج» لمدينة برلين تمثالاً نصفياً من البرونز مع قاعدة للتمثال ليتم وضعها على مقبرته فى 11 أكتوبر عام 2011، ودشن نصب تذكارى له فى الصين عام 2013 تقديراً لإنسانيته واعترافاً بدوره لإنقاذ أرواح ما يقرب من ربع مليون مواطن صينى أثناء الحرب العالمية الثانية.


مواضيع متعلقة