محمد مصطفى أبوشامة يكتب.. إهدار «الغضب الساطع»

محمد مصطفى أبوشامة يكتب.. إهدار «الغضب الساطع»
- دعم الأشقاء الفلسطينيين
- «مقاطعة البضائع»
- المصالح اقتصادية
- فلسطين
- دعم الأشقاء الفلسطينيين
- «مقاطعة البضائع»
- المصالح اقتصادية
- فلسطين
نمتلك فى بلادنا قدرات متميزة نُحسد عليها فى إبداع «إهدار الفرص»، لهذا اخترنا، مثلاً، أن ندعم الأشقاء الفلسطينيين بـ«مقاطعة البضائع» التى تنتمى لعلامات تجارية أجنبية، مغفلين أن معظم هذه السلع أصبحت بطبيعة الحال منتجات مصرية، برأسمال مصرى وعمالة مصرية، فأصبحنا كمن قرَّر أن يصفع نفسه انتقاماً من إهانة تلقاها من شخص آخر. واستغل نشطاء -سأفترض فيهم حسن النية- طاقة الغضب داخل شعوبنا الطيبة فى توظيف هذا الضغط الشعبى المتصاعد لتحقيق مصالح اقتصادية وأرباح خيالية، فروَّجوا لقوائم سوداء تضم المنتجات والسلع المراد مقاطعتها، ودون قصد أسهموا فى نشر اتهامات باطلة عن شركات ومتاجر كبرى، ليشحذوا همّة الجماهير للمقاطعة، كما نظَّموا حملات على مواقع التواصل الاجتماعى، منحت قرار المقاطعة ختم «الوطنية»، وبالغت فى قيمتها وأثرها وكأنها جهاد فى سبيل الله.
وظهرت فى المقابل «قوائم بيضاء»، تطرح البدائل من السلع والمنتجات، وأقحمت شعارات رنانة مثل: «شجّع صناعة بلدك»، و«اشترى المصرى»، فيما تضخمت القوائم (السوداء)، واتسعت لتشمل أغلب المنتجات والشركات التى تحمل جنسية دول تبنَّت السردية الإسرائيلية ودعمت خطوات حكومة الحرب فى تل أبيب بقيادة بنيامين نتنياهو، وبالطبع تصدَّرت القوائم كل من أمريكا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا وكبرى «برانداتهم» العالمية، التى تحتكر المنتجات والسلع الأكثر استخداماً واستهلاكاً حول العالم.
وبلغ التجلى فى الإبداع حداً مبهراً، فقد طالعت مؤخراً فى العديد من وسائل الإعلام المحلية والعربية خبر تدشين تطبيق «قضيتى»، الذى وصفته الزميلة ندى قطب على موقع جريدة «الوطن» قائلة: «قضيتى، تطبيق مصرى أصبح قِبلة للمقاطعين على مدار الأيام المنقضية، باعتباره دليلاً شاملاً للمنتجات الذى يجب الامتناع عن تناولها باعتبارها تخرج من بلاد تدعم كيان الاحتلال الإسرائيلى، إلى جانب تصحيح بعض المعلومات غير الدقيقة عن منتجات المقاطعة». إن ضعف الخسائر المتوقعة من حملات المقاطعة بفرض قدرتها على الاستمرار لفترات طويلة، وإصابتها الهدف الصحيح باختيارها لمنتج أجنبى تنطبق عليه كل الشروط، ومقارنة هذه الأرقام بحجم خسائر إسرائيل الاقتصادية الفادحة يومياً بسبب الحرب على غزة، يجعل الأمر مثيراً للسخرية، ويبدو ساذجاً.
الغضب طاقة هائلة، غالباً ما تكون مدمرة، لكن التعامل الذكى معها يجعلها «طاقة إيجابية»، وبرغم أن مصدر الغضب سلبى ويصاحبه الحزن والألم، فإن استثمار الغضب فى سياقه الإيجابى المحفز يخفف من وطأة هذه المشاعر ويبددها، وهو ما بشرنا الرحبانية بأنه «من كل طريق آتٍ»، إنه «الغضب الساطع»، الذى سيهزم «وجه القوة»، والذى يشبه «وجه الله الغامر»، سمعنا ذلك وتعلمناه من صوت السيدة فيروز فى رائعتها الخالدة «زهرة المدائن».
حديث الغضب مفهوم دوافعه، ومعروف أسبابه، فكل الشعوب العربية غاضبة موجوعة لما يجرى للأشقاء فى غزة، وما يضاعف حزننا هو إهدار هذا «الغضب الساطع» وتفريغه من قيمته واستهلاكه فيما لا طائل منه، لتصبح نصرة فلسطين، تحت لافتة «قضيتى» هى «مقاطعة بضائع وسلع»، ليكتمل المخطط المستمر لمسخ القضية، وتفريغ شحنات الغضب العربى فى فراغ.. وهراء.
لتختزل «قضية فلسطين» القضية السياسية والعسكرية العربية الأولى، وقصة الشعب البطل الذى غُدر به وسُرق وطنه وانتهكت أرضه وعرضه، وتتحول قضيته إلى قضية إغاثة إنسانية ووصول مساعدات غذائية وطبية، ويتقلص السلام العادل وحل الدولتين، إلى هدنة مؤقتة وممرات آمنة، ويتبدل حق عودة ملايين اللاجئين المطرودين من أراضيهم المحتلة إلى وساطة أممية حول آلاف الأسرى فى السجون الإسرائيلية.
إن استثمار الغضب فى سياقه الصحيح يستدعى منا أن نوجه كل طاقتنا لبناء أجيال مدركة لخطر إسرائيل وأن معركتنا معها مؤجلة لكنها حتمية وأكيدة، أجيال تؤمن بالسلام خيار الأقوياء وعقيدة المنتصرين، أجيال تعتنق المقاومة كركيزة أساسية لتحقيق النصر، وتعلم أن الذكاء الحقيقى فى هذا الصراع الأبدى بين الغرب وإسرائيل، هو ما قاله الفيلسوف العسكرى الصينى فى كتابه «فن الحرب» قبل أكثر من 2300 عام: «إن إحراز مائة انتصار فى مائة معركة ليس هو الأفضل بل إن إخضاع العدو من دون قتال هو أفضل ما يكون».