طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الثانية)

كتب: محمد الدعدع

طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الثانية)

طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الثانية)

لم يقعده العمى، الذى أصيب به فى أيام الصبا المبكر، عن الذود عن «اللغة العربية»، فظل طوال 32 عاماً قضاها بـ«مجمع اللغة العربية» يناقش ويُداخل ويحاضر ويطرح ويُعقّب ويتساءل عن حال اللغة ومصيرها.

محاضر تاريخية لجلسات "العميد" فى "مجمع الخالدين" بيعت بالكيلو

لصاحب «الأيام» أيام لم ترَ النّور، بعدما طالها من إهمال وتفريط، فبين جنبات مجمع اللغة العربية وأروقته، راح عميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين (1889 - 1973)، يقلّب فى خزائن أفكاره وخواطره، فيطرح منها ما تذهب به نفسه إلى الظن بنفعه، للحفاظ على موروث الأمة من اللغة، وقد جادت الآلة الكاتبة والمحبرة والورق بحفظ ذلك كله فى محاضر ورقية، ظل أكثرها على حاله، فنقلت بدقة، بينما لفّ المجهول مصير محاضر جلسات «المجمع» لعقود، فطُبع منها ما طُبع، وطوى النسيان ما بقى منها، وقد أعمَل فيها الزمان سنته بعد بقائها دون طباعةٍ أو ترقيمٍ أو تجليدٍ، وتسلطت عليها أيدى الإهمال، فلم تسلم من تفريط البعض قبل نحو 16 عاماً، عندما تخلّصوا من عشرات الأطنان من هذه المحاضر ببيعها بـ«الكيلو»، حيث تم اكتشاف بعضها لدى بائع للبطاطا.

اليوم تكشف لنا المحاضر الورقية لجلسات «المجمع» أخبار «العميد» وآراءه ومناقشاته هناك، وتضعُها «الوطن» بين يدى القارئ لأول مرة، بعد عُقود ظلت فيها حبيسة الأدراج، وقد استُخلص أكثرها من 10 آلاف ورقة، لم تجد بعد طريقها للنشر.

عميد الأدب العربى: "العثمانيون" فرضوا أنفسهم على الشرق فأفقدوا "العربية" سلطانها.. وعصر "المماليك" لم يكن ظلامياً

وافق طه حسين، ما ذهب إليه الشيخ محمد مصطفى المراغى، من وضع معجم لألفاظ القرآن الكريم، فاقترح فيه: «أن يكون مقصوراً على القرآن كما فهمه المسلمون وكما فهمه العرب وقت نزول القرآن الكريم، والخلاف بيننا فى الكلمات التى لم ينص المفسرون على أن لها أصلاً غير عربى، فالأستاذ المراغى يرى أن نتركها لأن العرب قد نسوا أصلها وفهموها على الوجه الذى نزلت به، ونحن نرى أن نذكر هذا الأصل ما دمنا قد عرفناه لأنه لا ضرر مطلقاً من ذكره ولا حرج فى إثباته.. فهناك مسلمون من القرن الثانى ومن القرن الثالث ومن القرن الرابع ومن جميع الفرق الإسلامية فسروا القرآن من كل جهة، وأدخلوا التأويل فيه، وهم على اختلاف فرقهم لا يشك أحد فى قيمتهم العلمية والدينية. ونحن حينما أردنا وضع معجم للقرآن ما أردنا بعمله إلا أن يفهمه المسلم كما كان يفهمه البدوى الممسك بجمله، ولكنى أرى أن أكثر المفسرين للقرآن كانوا من أمم أخرى غير العرب، وقد تركوا ذكر أصول كثير من الكلمات لجهلهم بها، وتركهم لهذه الأصول لا يلزمنى أنا أيضاً بتركها ما دمت قد عرفت هذه الأصول بمعرفتى للغات السامية وغيرها».

ودراسة تطور اللهجات العربية القديمة وصولاً إلى ما يتحدثه «العامة»، مقترح له بُغية تسجيل اللهجات العربية والقرآنية وتوثيق مفرداتها: «أعتقد أن ما يجب البدء به فى دراسة اللهجات هو عرض لهجات القراء عرضاً علمياً على الطريقة الحديثة، وهذه اللهجات القرآنية مدونة أبلغ تدوين وأروعه، فإذا درسنا مثلاً كتاب الحجة للفارسى، والمحتسب فى القراءات الشاذة لابن جنى، ووجهنا ما فيهما على الأسلوب الحديث فى الإفهام والتقريب، خدمنا دراسة اللهجات، وإذا أتيح لنا فى أثناء ذلك أن ندرس تطور بعض هذه اللهجات إلى العامية كان ذلك حسناً. فليكن عملنا تسجيل اللهجات القرآنية تسجيلاً كاملاً، وبذلك نكون قد سجلنا اللهجات العربية من أهم مصدر لها وهو القرآن».

قدم مشروعه لـ"عالمية العربية" فى مؤتمر "المجمع" عام 1969م وكان يرى فى اللغة العربية وفى نحوها مصاعب يجب أن تُذلل لتلائم التعليم الإلزامى الذى تفرضه قوانين العصر فى البلاد

ولمَّا كثرت أعمال «المجمع»، وتعددت مطبوعاته، تبنى طه حسين إنشاء مطبعة خاصة بالمجمع: «لقد أصبحت أعمال المجمع كثيرة، ومطبوعاته متعددة، فلديه الآن: المعجم الكبير والمعجم الوسيط ومعجم ألفاظ القرآن والمصطلحات العلمية المختلفة، كل هذه الأعمال تكتب على الآلة الكاتبة، وهى غير معدة لذلك، فلماذا لا نطلب إذن إنشاء مطبعة خاصة بالمجمع؟ ونحن الآن بصدد وضع الميزانية الجديدة، فلنقترح تخصيص مبلغ فيها يساعد على إنشاء المطبعة، ونطلب من الأستاذ الرئيس (أحمد لطفى السيد) التفضل بتنفيذ ذلك»، وهو الطرح الذى أيده، ووافق عليه رئيس المجمع، وعضوه على الجارم.

طوال سنواته هناك، أخلص طه حسين لإخوانه من «المجمعيين»، ممن هم برأيه حصن اللغة الأخير ومدادها ومادتها، فتُنبئنا «المحاضر» بدعواه وزير المعارف، إلى تخصيص معاش شهرى لأسرة عائلها الراحل إبراهيم عبدالقادر المازنى، وأن يُعلَّم أبناؤها بالمجان فى جميع مراحل التعليم، ومن بعض شواهد هذا الإخلاص أيضاً، مقترح للاحتفال ببلوغ أستاذه أحمد لطفى السيد سن الـ90، خاصةً مع انقطاع الأخير عن الجلسات لاعتلال صحته، وتقدمه فى العمر.

خَطَب فى تأبين أحمد لطفى السيد: "هو الذى علم الشباب أن مصر يجب أن تكون لأبنائها وأن تخلص لهم من دون التُّرك أصحاب السيادة حينئذ ومن دون الإنجليز"

ومع مداومة تخلف أحمد لطفى السيد عن رئاسة الجلسات، تولى طه حسين المهمة، بوصفه نائباً للرئيس، بدءاً من أعمال الدورة 28 (1961م)، فكان يُشار إليه فى المحاضر بـ«الدكتور نائب الرئيس»، فتحمل المهمة الثِقَّال، قبل أن يُبدى اعتذاراً فى العام التالى عن الإشراف على المعجم اللغوى الكبير لظروف صحية، متعهداً بأن ذلك لن يؤخره عن المشاركة فى جلسات المعجم الكبير قدر الاستطاعة، لكن هيهات هيهات، فالمسئولية جسيمة، وعناء المشاركة فى الجلسات من جسده النحيف بالغ، خاصةً مع وفاة رئيس المجمع، أحمد لطفى السيد، وقد اجتمع مجلس المجمع برئاسة الدكتور عبدالحميد بدوى، أكبر الأعضاء سناً، صباح الاثنين 11 مارس 1963، فى أول جلسة بعد وفاة رئيس المجمع، وبدت على طه حسين علامات التأثر لرحيل أستاذه، وقد افتتح الجلسة بكلمةٍ قال فيها: «أشهد أيها الزملاء والسادة، لقد فقدت كثيراً من الإخوان والأصدقاء الأحباء الكرام عليّ، فوجدت ما يجد الإنسان من اللوعة والأسى لفقد الإخوان والأصدقاء، ولكن أجد من ذلك لفقد هذا الأب البر والأستاذ الكريم والصديق الحميم أحمد لطفى السيد، ما لم أجد مثله قط لفقد أب أو أخ أو صديق. لقد عرفته فى الثامنة عشرة فاتصل الود بينه وبينى أكثر من نصف قرن، ثم فقدته الآن أحبّ ما كان إلىّ وأكرم ما كان عليّ وآثر ما كان عندى. لم يكد يلقانى لأول مرة حتى امتلأ قلبى إكباراً له وإعجاباً به، وتمنيت لو أتيح لى أن ألقاه فى كل يوم، وكنت أعتقد بل كنت أثق بأنى إنما أتمنى شيئاً لا سبيل إليه، وأين يكون طالب فى الأزهر لا خطر له من مدير الجريدة ذاك الذى كان حديث الناس فى كل بيئة وفى كل مكان منذ أخذ الناس يقرأون مقالاته الرائعة فى الجريدة كل مساء. ولكن لم أصدق أذنى حين هممت بالانصراف عنه فسمعت صوته العذب يطلب إلىّ أن أعود لزيارته كلما أحببت ذلك. سمعت هذه الدعوة الكريمة فلم أملك نفسى من الابتهاج والغبطة، وأكببت على يده أريد أن أقبلها، كما كنا نقبل أيدى أساتذتنا فى الأزهر، ولكنه يمتنع علىّ، وما أشعر إلا بقبلة يضعها على جبينى فأنصرف من عنده وقد ملكنى العُجب والتيه. ثم تتصل زيارتى له، وإذا أنا ألقى منه حناناً وعطفاً يزدادان كل ما اتصلت الزيارات، ثم أرانى أختلف إليه فى مكتبه أكثر أيام الأسبوع، وإذا أنا قد أصبحت له تلميذاً لا ألم به مرة إلا استنفدت منه علماً جديداً وعلماً بأشياء لم تكن تخطر لى ولا لزملائى من الطلاب الأزهريين. كان يحدثنى عن أوروبا ويذكر لى أسماء لم أسمع بها من قبل أن ألقاه، يذكر لى فولتير وروسو وديدور ومونتسكيو، ويحدثنى عن أثر هؤلاء فى بيئاتهم الفرنسية وعما كانوا يكتبون وعما كان يعرض لهم من الأحداث وعما كانوا يهيئون لوطنهم من هذه الثورة الفرنسية الكبرى التى لم أسمع بها قبل أن ألقاه ثم فُتنت بها فتنة أى فتنة بعد أن سمعت منه يعرض حديثها. وكذلك أصبح لى أستاذاً وفياً وأصبحت له تلميذاً، وإذا هو يغرينى بتعلم اللغة الفرنسية فأسمع منه ثم أقول لنفسى وربما قلت له وأين أنا من اللغة الفرنسية؟. ثم تفتح الجامعة المصرية فيغرينى بالالتحاق بها والاختلاف إلى ما سيلقى فيها من الدروس والمحاضرات. وإذا هو ثانى اثنين فتحا لى من أبواب المعرفة ما لم يكن يخطر لى على بال أحدهما، كان يحدثنا فى الأزهر عن الأدب العربى القديم، والثانى كان يحدثنى ويحدث كثيراً غيرى من طلاب المدارس العليا عن الحياة الأوروبية الحديثة وما يطؤها من فنون المعرفة. وإذا أنا أنصرف عن دروس الأزهر إلى حديث هذين الأستاذين الكريمين ثم أرانى أكتب المقالات قصاراً أحياناً وطوالاً أحياناً أخرى وأعرضها عليه فيصلح ما يحتاج منها إلى الإصلاح ويأمر بنشرها ويشجعنى على المضى فى الكتابة، ومهما أقل ومهما أكتب فلن أستطيع أن أصور كما ينبغى تأثير هذا الأستاذ الجليل فيمن كان يختلف إليه مثلى من الشباب، فقد أحياناً حياةً جديدة وفتح أمامنا من الآفاق ما لم يستطع أحد غيره أن يفتح أمام الشباب. كان يحدثنا فى غير تكلف عن السياسة المصرية وعن السياسة العالمية، ولأول مرة سمعنا منه ألفاظ الديمقراطية والأرستقراطية وحكم الفرد وحكم الجماعة وحكم الأمة فى أن تحكم نفسها بنفسها، وآراء أرسطاطاليس وأفلاطون أو سيدنا أرسطاطاليس وسيدنا أفلاطون كما كان يقول فى أنواع الحكومات على اختلافها، ومن آراء مونتسكيو فى كتابه روح القوانين وآراء روسو فى كتابه العقد الاجتماعى. ذلك كله ما كنا نقرأ فى مقالاته من أن الأمة هى الكل فى الكل، ومن أن مقام الأمة فوق كل مقام، ومن أن الحكام ليسوا فى حقيقة الأمر إلا خُداماً للشعب يخدمونه ويأخذون أجرهم منه، فإذا استقاموا ونصحوا للشعب فهم خُدام أمناء، وإذا جاروا فهم خُدام خونة لا فرق فى ذلك بين أمير ووزير وموظف مهما يكن مركزه، ومنه سمعت لأول مرة قول أبى العلاء:

ظلموا الرعيّة واستجازوا كيدها.. فعدَوْا مصالحَها وهم أُجَراؤها

ماذا أقول، بل منه سمعت لأول مرة أن أبا العلاء قد أخذ فلسفته النظرية عن الفيلسوف اليونانى أبيقور الذى زهد فى الحياة ولذاتها اجتناباً للألم والذى أعلن أن الكائنات لم تخلق للإنسان بل خُلقت كالإنسان. وهو الذى حبب إلىّ أبا العلاء حتى أخذت فى درسه واستقصاء أدبه وفلسفته وتقدمت برسالة عنه إلى الجامعة أبتغى بها درجة الدكتوراه. وقد قرأ هذه الرسالة بعد أن قبلتها الجامعة، ولست أنسى يوماً لقيته فيه بعد أن فرغ من قراءة هذه الرسالة فإذا هو يأخذنى بين ذراعيه. ولست أغلو أيها الزملاء والسادة إذا قلت إن هذا الأستاذ الجليل قد أنشأ فى مصر جيلاً جديداً، ولست أنا وحدى الذى يقول هذا بل كثيرون من تلاميذه قالوه وما زالوا يقولونه، فهو أستاذ الجيل غير منازع، وهو الذى علّم الشباب المصريين حق الأمة فى أن تحكم نفسها بنفسها، وعلمهم أن مصر يجب أن تكون لأبنائها وأن تخلص لهم من دون التُرك العثمانيين أصحاب السيادة حينئذ ومن دون الإنجليز المحتلين. وقد سافرت بعد ذلك إلى أوروبا فلم ينسنى ولم أنسه، وإنما اتصلت الرسائل بينه وبينى ولم أقدم رسالتى عن ابن خلدون إلى السوربون لأنال بها الدكتوراه إلا بعد أن قرأها وأجازها وكلف الجامعة أن تكتب إلىّ بذلك، وأن تأذن لى فى تقديم الرسالة كما كانت القاعدة تقضى بذلك فى تلك الأيام. ثم عُدت من أوروبا أستاذاً فى الجامعة، فكانت رعايته لى أستاذاً كرعايته لى تلميذاً لم ينقطع عطفه علىّ وبره فى يوم من الأيام. ثم عملت أستاذاً فى الجامعة الحكومية فلم تتغير سيرته معى وإنما ظل دائماً أباً باراً وصديقاً وفياً، وقد استقال من الجامعة حين أُخرجت منها فى بعض الأزمات السياسية ولم يعد إليها إلا بعد أن عُدت أنا إليها. أيها الزملاء والسادة، أستطيع أن أطيل فى هذا الحديث أضعاف ما أطلت، بل أستطيع أن أكتب كتاباً عن أحمد لطفى السيد إن أذن الله لى بذلك، وأنا واثق كل الثقة بأنى إن فعلت هذا وأكثر من هذا مقصر أشد التقصير عن أداء حقه علىّ والوفاء بدينه عندى. فلا غرابة فى أن أشهد أمامكم صادقاً كل الصدق، مخلصاً كل الإخلاص أنى فقدت كثيراً من الأحباء الأعزاء علىّ فوجدت ما يجد الإنسان من اللوعة والأسى ولكنى لم أجد قط مثل ما أجد الآن بعد أن فقدت هذا الأب الرحيم والصديق الحميم».

دعا إلى تسجيل اللهجات القرآنية ووضع معجم لمفردات "القرآن" للحيلولة دون تفسيره وفقاً لأهواء مفسِّرى القرون الثلاثة الهجرية الأولى.. ولم ينكر فضل الأمم الأخرى على "العربية"

بـ21 صوتاً، مقابل صوتين للدكتور إبراهيم مدكور، وصوتين آخرين للدكتور عبدالحميد بدوى، فاز طه حسين برئاسة مجمع اللغة العربية، فى اجتماع مجلس المجمع صباح الاثنين 12 مايو 1963، برئاسة الدكتور عبدالحميد بدوى، وقد أبلغ المجلس فى مذكرة لوزير التعليم العالى، أعقبها صدور القرار الجمهورى رقم 2078 لسنة 1963 فى أول سبتمبر 1963، ممهوراً بإمضاء الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بتعيين طه حسين رئيساً لمجمع اللغة العربية لمدة أربع سنوات فى مادته الأولى.

لم يكفكف طه حسين، يوم تولى رئاسة «المجمع» محاردته الأعضاء، وقد استقبلهم فى أولى جلساته بملاحة ظُرفِه، مُبدياً بكلمات راسيات بين الشكر واللوم عن غير توبيخ: «أستأذنكم فى أن أُهدى إليكم أصدق التحية وأعمق الشكر بعد ذلك، على هذا الفضل العظيم الذى أسندتموه إلىّ قبل هذا الصيف، وإذا أردتم الحق فإنكم أجدر باللوم منكم بالشكر، ذلك أن الواجب على أعضاء المجمع إذا أرادوا أن ينتخبوا لهم رئيساً، أن ينتخبوا رئيساً قادراً على أن ينهض بأعباء الرياسة، كما نهض بها أستاذى وأبى أحمد لطفى السيد فى رياسته، ولكنكم أثرتم إسداء الجميل على العناية بما يجب المجمع من رعاية، على أنى أعفى نفسى من أن ألومكم وأكتفى».

لكن طه حسين لم يعد كما كان، وقد فارقته عادته الأولى من دأب المشاركة، وممالحة الأعضاء، فأوجَز حديثه وزهد الكلام عن غير انقطاع، وإن أبدى رأياً لم يتعداه إلى ما يُجاوز حدود السطرين، فيفتتح أعمال المجلس، بجملة افتتاحية صارت تقليداً لأعمال الرئاسة: «وُزع على سيادتكم محضر الجلسة السابقة، فهل من ملاحظات عليها؟»، ليُفتح بذلك باب النقاش حول جدول أعمال الجلسة المحدد سلفاً، وكان يُشار إليه فى «المحاضر» يومئذ بـ«الدكتور الرئيس».

آخر اجتماعاته رئيساً لـ"المجمع" 2 أبريل 1973.. وتُوُفى 28 أكتوبر وتم تأبينه فى الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى بحضور زوجته وابنه 26 ديسمبر

واصل طه حسين أعمال النظر فى الألفاظ والمصطلحات، بين حضور خجل وغياب مشهود، فيما لم تمض الأيام كسابقاتها الأُوَل، ومضى يُؤبن الراحلين، فيقول فى رحيل عضو المجمع أحمد حسن الزيات عام 1968م، موجزاً: «يحزننى أشد الحزن أن أبدأ هذه الجلسة بذكر ما أصاب المجمع وأصاب أعضاءه وأصابنى أنا شخصياً من وفاة صديق الشباب منذ أوله، والزميل الكريم فى مجمعنا اللغوى وفى غيره، الصديق الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله، وأؤكد لكم أن نبأ وفاته حينما وصل إلىّ كان له فى نفسى أعمق الأثر وأبلغه، فقد عرفته وأنا فى أول دراستى بالأزهر الشريف، ومنذ ذلك الوقت ونحن صديقان لا نفترق إلا حين يسافر أحدنا إلى الخارج. وما أكثر ما تعرضنا فى حياتنا لما يُرضى ولما يسىء. معه أُخرجت من الأزهر ومعه أُعدت إليه، أُخرجنا بتهمة الإلحاد، لأننا كنا ندرس الكامل للمبرد على الشيخ سيد المرصفى، ومنع الشيخ سيد من قراءة الأدب، وعُرض عليه أن يقرأ النحو لابن هشام، وقرأ الأمالى لأبى على القالى، وهكذا جرت علينا خطوب مختلفة كنا فيها كشخص واحد، ولا يصيب أحدنا فى شىء إلا أصاب الآخر، وأصاب معه الزميل محمود حسن زناتى رحمه الله، وقد شارك الزيات فى كثير من أعمال المجمع اللغوى، ففقده خُطب جلل، وما أظننا نصل إلى أن نُعوضه. أحسن الله عزاءكم وعزاءنا فيه».

ويزيد فى نعى الأمير مصطفى الشهابى، وحسن حسنى عبدالوهاب عام 1969م، على بعض ما مضى بقوله: «أذكر ما مُنى به المجمع من وفاة أستاذين كريمين، الأمير مصطفى الشهابى رحمه الله، والأستاذ الجليل حسن حسنى عبدالوهاب وكلاهما من أعظم علماء الأمة العربية، وأكثرهم خدمةً للعلم، وأصيب بخطبهما خطب جلل، ولكن أسأل الله أن يعوض البلاد العربية عنهما، وأن يهىء لهذه البلاد من يقوم مقامهما إن كان لهذه البلاد حظ، ورضى عنهما الدهر، ورضى عنهما الله أيضاً».

ولأن الغيث لا يرتجى إلا بمخايله، ولا يستدل على أواخر الأمر إلا بأوائله، فقد أخذ مشروع طه حسين لـ«عالمية العربية» شكل إرهاصات وأفكار وخواطر منذ انضمامه لـ«المجمع»، ولقَّحت الأفكار الأفكار، فنبتت وأورقت على الغصن النضير، وصولاً إلى ما يمكن وصفه باختمار مشروعه، وقد قدم له وصفاً شاملاً فى كلمةٍ ألقاها، فى ختام جلسة مؤتمر «المجمع» سنة 1969م، ينقلها محضر الجلسة نصاً، فيقول: «سادتى، أستأذنكم قبل رفع الجلسة، أن أحدثكم فى موضوعين أحدهما عالمية اللغة العربية، والآخر تيسير هذه اللغة، أما عالمية اللغة العربية، فالعالم لم يعرف إلى الآن إلا ثلاث لغات كانت فى عصورها هى اللغات العالمية المعروفة، وهى اليونانية التى أصبحت عالمية بعد فتوح الإسكندر، واستقرار هذه اللغة فى البلاد الشرقية، كما استقرت فى البلاد الغربية وكانت لغة الحضارة فى كل بلاد الغرب التى تأخذ بأسباب الحضارة. والثانية اللغة اللاتينية التى انتشرت مع الفتوح الرومانية فى الشرق والغرب جميعاً، وظلت بعد انتهاء الدولة الرومانية لغة العلم ولغة الكتابة إلى وقت متأخر جداً، فكانت هى لغة الكتابة ولغة العلم فى أوروبا طوال القرون الوسطى، ولم تتقهقر إلا عندما ظهرت اللغات الأوروبية الحديثة بعد النهضة الأوروبية. كانت اللغة العربية فى عصورها الأولى فى القرن الرابع أو الخامس هى اللغة العالمية السائدة وكانت تتعلمها الأمم التى لم تفهم العربية قبل انتشار الإسلام، وتعلم من هؤلاء علماء الفرس والهنود والإسبان والمصريين غير العرب، ومن المغاربة غير العرب، فكتبوا وأجادوا فى فنون كثيرة من العلم وفى فنون كثيرة من الأدب، ومنذ أن أقبل الترك العثمانيون وفرضوا أنفسهم على الشرق أخذت اللغة العربية تفقد سلطانها شيئاً فشيئاً، وأحب أن أذكر هنا خطأ يقع فيه مؤرخو الآداب والعلوم كثيراً وهو أن عصر المماليك كان عصراً مظلماً، وهذا خطأ فاحش جداً، بل وأستطيع أن أقول إن عصر المماليك كان هو العصر الذى ظهرت فيه دوائر المعارف العربية ومنها نهاية الأرب للنويرى، ومسالك الأبصار للعمرى، وصبح الأعشى للقلقشندى، ولسان العرب لابن منظور وما إلى ذلك. ولكننا فى عصر لم تُعرف اللغة العربية لغة حديثة يمكن أن يقال إنها عالمية، كما كانت اللغات الثلاث عالمية فى عصورها. واللغات الأوروبية الحديثة يزاحم بعضها بعضاً، وتتنافس فى أن تكون لغة عالمية، لا سيما الإنجليزية والفرنسية، وأنا أتمنى أن تصير للغة العربية عالميتها على أقل تقدير فى البلاد الإسلامية، حيث يوجد الذين يكتبون بالعربية فى الهند والباكستان والذين يؤلفون فى البلاد الإسلامية التى لها لغات أخرى كما كان القدماء من الفرس وغير الفرس يكتبون باللغة العربية كما كتب (ابن سينا) و(البيرونى) وغيرهما من الذين كتبوا فى أنواع كثيرة من الفنون والعلوم، ولا ينبغى أن ننسى أن أهم علماء النحو جميعاً من الفرس، وكان أهم علماء البلاغة من الفرس أيضاً، والبلاغة العربية والنحو العربى يشترك فيهما الفرس مشاركةً أصيلة مؤثرة يجب ألا ننساها، وأن نعمل كل ما نستطيع لتسترد اللغة العربية عالميتها، وأن يكون للأدب الحديث عالمية، وقد أخذ الأدب العربى ينقل إلى كثير من اللغات الأوروبية وليس هذا بالقليل، وأنا أرجو أن يزداد ويزداد فى تقدمه، وأشير إلى تقدم العلوم والآداب فى بلادنا العربية. أما الموضوع الثانى، وهو تيسير اللغة، فلا أحب إلا أن ألفت النظر إلى شىء واحد هو أن هذا العصر هو العصر الذى يفرض فيه التعليم على كافة الشعب رجالاً ونساءً، وإذا فرض التعليم على الكافة وجب أن يُيسر بحيث تستطيع هذه الكافة أن تنهض به، وتأخذ منه بحظ. وفى اللغة العربية وفى نحوها مصاعب يجب أن تُذلل لتلائم التعليم الإلزامى الذى تفرضه قوانين العصر فى البلاد التى تتقدم، ولا بد أن تُيسر الكتابة ليستطيع الإنسان أن يقرأ ويكتب ويفهم لا أن يفهم ليقرأ، فيجب أن يقرأ ليفهم إذا أردنا أن يقرأ قراءةً صحيحة، ولا بد أن يقرأ لتكون القراءة هى الوسيلة إلى الأخذ كما هو الحال فى اللغات الأوروبية، هذا شىء لا بد من أن ننظر إليه نظرة جادةً فى هذه الأيام. لقد كان العلم أرستقراطياً فيما مضى، ولكنه أصبح ديمقراطياً كغيره من الأشياء، وكل ما تشمله الديمقراطية يجب أن يكون ملائماً لطاقات الشعب، هذا هو الذى أردت أن أشير إليه فى هذه الجلسة، جلسة الافتتاح وأرجو أن تفكروا فيه أثناء جلسات المؤتمر. أما بعد، فإنى أجدد تحيتى وأجدد الترحيب وأستأذنكم فى رفع الجلسة».

لمّا أضناه التعب، وتملكه الإجهاد، ودهمه اعتلال البدن، بدأ حضوره ينحسر شيئاً فشيئاً، وغابت عن «المجمع» شمسه فى سرادق الغيم، مُنيباً فى أعماله نائبه زكى المهندس، وقد تخلّف عن رئاسة الجلسات لشهرين كاملين عام 1970، فخطب فى الأعضاء معتذراً: «أيها السادة.. معذرةً إليكم تخلفى شهرين كاملين عن جلساتكم، وأؤكد لكم أنى حزنت حزناً عميقاً على هذا التخلف، ولم أفعله إلا مضطراً إليه، وأؤكد لكم أيضاً أنى اليوم قد احتجت إلى جهد غير قليل لأحضر هذه الجلسة، فمعذرةً ومعذرةً ومعذرةً. وأسأل الله أن يبارك لنا فى هذه الدورة كما بارك لنا فى سابقاتها، إن شاء الله». تولى زكى المهندس مهام رئيس «المجمع» فى ترؤس الجلسات، وأصبح حضور طه حسين قاصراً على افتتاح الدورات، وآخرها الدورة «36» التى افتتحها صباح الاثنين الموافق 19 يناير 1970م، بالقاعة الكبرى بمبنى جامعة الدول العربية بالقاهرة، فى حضور الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، وجمهرة كبيرة من رجال وزارات الثقافة والتعليم العالى والتربية والتعليم، وأساتذة الجامعات وممثلى المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية، وجمع من علماء وأدباء سوريا، وأعضاء المجامع العربية فى بغداد ودمشق، وقد ارتجل فى افتتاحها قائلاً: «أيها السادة.. أبدأ بشكر السيد الوزير الجليل على تفضله بمشاركتنا هذه الجلسة أولاً، وعلى كلمته الكريمة ثانياً، وأشكره شكراً عميقاً جميلاً، وأتمنى أن يحقق للمجمع ما تفضل به سيادته، فيحقق ما أعلنه سيادته من دار خالصة له لا تضطره لأن يعيش عيشة البدو، متنقلاً من مكان إلى مكان، كلما احتاج إلى شىء من هذا. وأرحب بعد ذلك بالزملاء الكرام الذين وصلوا إلى وطنهم الثانى للمشاركة فى مجمعهم العربى، وليبذلوا معنا الجهد الذى ذكره السيد الوزير الجليل وأثنى عليه مشكوراً كل الشكر. وإذا كان القدماء من العرب قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه، ووضعوا مصطلحات للعلوم فى أوقاتهم، وعربّوا ما عربّوا، فهم على كل حال قد صنعوا ذلك دون أن يكون لهم مجمع لغوى، وإنما عملوا فيها بجهود الأفراد من العلماء. ولست أنسى ما رواه الجاحظ من قصة لبعض الناس فى مجلس عند المتوكل. كان الناس ينتظرون إذن الخليفة، وفى أثناء ذلك يتجاذبون أطراف الحديث فقال واحد منهم: إن كذا وكذا قد تلاشى، فقال أحد المتكلمين: لما سمعت هذه الكلمة كدت أطير فرحاً، وأنفجر غيظاً، أما الفرح فلأن كلمتنا قد شاعت، وأما الغيظ فلأن رجلاً من غير المتكلمين يعتدى على كلمة من كلماتهم. هذا كلام كان يقال فى تلك الأيام، أما الآن فالحمد لله، ليس هناك من ينشر علماً من العلوم دون أن يكون للغويين مشاركة فيه، لتمكين طلاب العلم والدارسين له من أن يدرسوه درس فهم، وتحقق، وإحاطة. وإذا كان مجمعنا اللغوى قد وصل إلى ما وصل إليه من إنتاج، وبذل ما بذل من جهد، فالذى أستطيع أن أؤكده لكم هو أن أمام المجمع جهوداً أكثر وأعمق مما بذل، وما حقق، فما زالت الحضارة وعلومها الحديثة أبعد من أن قد أحطنا بها ومصطلحاتها، وما زلنا محتاجين إلى أن نضاعف جهودنا ونبذل أقصى ما نستطيع لنحقق للأمة العربية ما تصبو إليه من تحقيق الوحدة اللغوية، إلى جانب ما نسعى إليه من تحقيق الوحدة بمعناها السياسى والاقتصادى، إلى غير ذلك. فالشىء الذى ليس فيه شك هو أن المجمع قد بذل ما بذل من الجهود فيما مضى من حياته، وهو قادر إن شاء الله بفضلكم جميعاً، مصريين وعرباً، على أن يبذل جهوداً أثرى وأكثر وأعمق، وأن ينتج إنتاجاً أخصب وأغزر وأنفع للأمة العربية، فى علومها ودراستها، مهما نختلف، والفضل فى هذا لكم جميعاً، للمواطنين ولإخواننا الوافدين إلى وطنهم المصرى فى هذه الجلسات الشيقة. وأرجو أن يوفقنا الله إلى كل ما نصبو إليه، وإلى كل ما نريد، وأرجو أن تكون الوحدة اللغوية أسبق إلى الوجود من غيرها، وقد تحقق منها شىء كثير بفضل ما بذلتم من جهود، وسيادة الوزير الجليل طلب منا أن نبذل جهداً خاصاً لتيسير المصطلحات لطلاب العلم، ولست أدرى أمخطئ أنا أم مصيب عندما أذكر أن وزارة التربية والتعليم طلبت إلى المجمع أن يشارك أو أن ينفرد بوضع معجم خاص للعلوم التى تدرس فى المدارس والمعاهد، لتكون ميسرة للدارسين فى هذه المدارس والمعاهد، وتيسر للأساتذة التعليم كما تيسر للطلاب أن يتعلموا، وما أشك فى أننا قد بذلنا جهداً ليس به بأس حين أنشأنا «المعجم الوسيط» الذى أعدنا النظر فيه، وسيظهر قريباً فى شكل أدق وأحسن مما كان».

كان صباح الاثنين 2 أبريل 1973م، آخر عهد طه حسين بـ«المجمع» رئيساً لجلساته، وقد افتتح فعالياتها، ورفعها تمام الواحدة ظهراً كما جرت العادة، دون شىء استثنائى فى محضر الجلسة، فلزم فيلته بعدها، والأرجح أنه سمع هناك بوصول كتاب الأكاديمية السويدية (نوبل) للمجمع، بشأن الترشيح لجائزة الأدب لعام 1973م، والتى سبق للمجلس أن أبدى رأياً فيها مُرشحاً إياه عام 1972م للجائزة، وقد قرر المجلس، وأمينه العام، إبراهيم مدكور، أن أسباب ترشيح «حسين» لا تزال قائمة، فُرشح للمرة الثانية عام 1973م.

غربت شمس طه حسين للأبد، فوافته المنية فى 28 أكتوبر 1973م، وقد اجتمع فى دار الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع بالقاهرة، مجلس المجمع، بحضور زوجته، وابنه مؤنس، لتأبينه مساء الأربعاء 26 ديسمبر 1973م، وقد شهد الدكتور إبراهيم مدكور، أمين «المجمع» فى تأبينه، قائلاً فيه: «يوم يئس المجمع من إخراج معجم فيشر التاريخى، اتجه طه حسين نحو فكرة وضع معجم كبير، وأبى إلا أن يضطلع بعبء التنفيذ، فبدأ أولاً برسم منهج هذا المعجم، وقضى عدة سنوات يتابع إعداد قدر من مواده، ويراجعها فى أناة وروية، واستطاع أن يخرج منها نموذجاً فى نحو 500 صفحة، وقد دفع به المجمع إلى الباحثين والمتخصصين، راجياً أن يوافوه بما يُعن لهم من ملاحظات وتعليقات، وكان هذا النموذج أساساً سار عليه المجمع فى إخراج معجمه الكبير».

هوى بموته نجم من نجوم العلم، وزوى بغيابه غصن من أغصان الأدب، فرحل وقد كان مداد فضله على «لغة الضاد» وافراً، دون بقاء أوفى وحضور أليق لِما ترك وخلَّف طوال سنواته بـ«المجمع».

ويسألونك ما طه، ولو خُبروا

  ما عندهم منه، لاستغنوا بما خُبروا

والغيث يشربه الظمآن من قلل

     وربما سأل الأنواء ما المطر؟

شعر عبدالرزاق محيى الدين

رئيس المجمع العلمي بالعراق في تأبين طه حسين

اقرأ أيضًا:

طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الأولى)


مواضيع متعلقة