طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الأولى)

كتب: محمد الدعدع

طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الأولى)

طه حسين.. معارك فكرية على عربات البطاطا (الحلقة الأولى)

يوم يئس المبصرون، لم يقعده مُصابه بالآفة المحتومة فى أيام الصبا والشباب المبكر عن الذَود عن «العربية» وقد انبرى عنها نافضاً قَتام الدهر وجموده المتجافى، فبذل ما بذل زهاء 32 عاماً بـ«مجمع اللغة العربية» لم يدّخر فيها جهداً، يناقش ويُداخل ويحاضر ويطرح ويُعقّب ويتساءل.

ولصاحب «الأيام» أيام لم تر النور لظلام غَشيَها بعد إهمال وتفريط، بين جنبات مجمع اللغة العربية وأروقته، راح فيها عميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين (1889 - 1973)، يقلّب فى خزائن أفكاره وخواطره فيطرح منها ما تذهب به نفسه إلى الظن بنفعه للحفاظ على موروث الأمة من اللغة، وقد جادت الآلة الكاتبة والمحبرة والورق بحفظ ذلك كله فى محاضر ورقية ظل أكثرها على أصالته، فنقلت بدقة، ومُزيت بحرصٍ وأمانة.

محاضر تاريخية لجلسات "العميد" فى "مجمع الخالدين" بيعت بالكيلو

منزويةً إلى الجدران، لفَّ المجهول مصير محاضر جلسات «المجمع» لعقود، فطُبع منها ما طُبع، وطوى النسيان ما بقى، بين ثنايا المهترئ الممزق من الورق، صار مآلها المزرى، وقد أعمَل فيها الزمان سنته القاهرة الماحية لمعالم الأشياء وأثخن دونما رحمة، بعد بقائها دون طباعةٍ أو ترقيم أو تجليدٍ أو نسخٍ أليَق، وقد سُلطت عليها أيدى الإهمال، فلم تسلم من تفريط البعض قبل نحو 16 عاماً، ممن تخلّصوا من عشرات الأطنان من هذه المحاضر بيعاً بـ«الكيلو» وتم اكتشاف بعضها لدى بائع للبطاطا.

اليوم تُحدِّث المحاضر الورقية لجلسات «المجمع» أخبار «العميد» وآراءه ومناقشاته هناك، وتضعُها «الوطن» بين يدى القارئ لأول مرة، بعد عقود ظلت فيها حبيسة الأدراج، وقد استُخلص أكثرها من 10 آلاف ورقة لم تجد بعد طريقها للنشر.

آراؤه محفوظة فى محاضر 33 دورة تولّت "الأميرية" طبع 20 منها

كعادته الأولى ومِراسه القديم، أقبل طه حسين على «مجمع اللغة العربية» وقد شمّر عن ساق الجَد، مستعذباً للنضال، راغباً فى الإصلاح، ثائراً على كل تقليد، له همّة فى التجديد فوق هامة النجم، وأبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الأفلاك، تتهاوى لفضله على «لغة الضاد» درر الكلم، ويستعصى على الأقلام إحاطته، وتلهث الأنفس من جهد توصيفه، فيتسع فيه المجال للثناء متنائى الأرجاء، كبحر لُجِّى مترامٍ أنَّى أتيته وجدته عميق الغور كريماً بما فيه.

ولو أن أبا منصور الثعالبى (961م - 1038م) أدركه، لكان حقيقاً به العدول عن مقالته فى «يتيمة الدهر» بابتداء الكتابة بـ«عبدالحميد»، واختتامها بـ«ابن العميد»، مُستبدلاً الأخير بطه حسين، لعظيم فضله فى صناعة الأدب، وواسع عطائه، وقد خلَّف ما لا يفتقر، مع روعة معانيه، إلى جزالة لفظه، ورقة حواشيه، وسحر بيانه.

أغلب الأوراق اختصت بأعمال متابعة النظر فى المصطلحات المختلفة.. وتضمنت آراء وأفكاراً لتيسير الكتابة العربية وإصلاح النحو وتحديث الفصحى

والإحاطة بطه حسين، كتاباته وآرائه ومراسلاته، ظلت ديدناً فى واقع الأمر لكثيرين، كان هو أولهم حينما انطلق ببعض مما اغتمرت به نفسه ونطق به لسانه، فأملى «الأيام»، وكان الأوفر حظاً فى المهمة، ثم تراها رفيقة دربه وحليلته، الفرنسية سوزان بريسو، وقد قدمت بعض هذه الإحاطة مما لم يطلع عليه سواها فى كتابها «معك»، ثم يُعيد الكرّة زوج ابنته محمد حسن الزيات، فى «ما بعد الأيام». وقد استنهض إرثه، وأولاه العناية، طائفة من الباحثين، ممن تأثروا به، وأدركوا فضله الوافر فى صناعة الأدب، بُغية الحفظ والتسجيل والتوثيق، من بينهم المؤرخ الراحل رؤوف عباس، فى مجلداته الخمس «المقالات الصحفية السياسية لطه حسين»، وعبدالرشيد محمودى، صاحب «أوراق طه حسين المجهولة»، و«من الشاطئ الآخر»، وفعل أيضاً محمد صابر عرب وأحمد زكريا الشلق فى «أوراق طه حسين ومراسلاته»، وإبراهيم عبدالعزيز فى «الديمقراطية»، و«وثائق طه حسين المجهولة»، و«رسائل طه حسين»، و«رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم»، ونبيل فرج فى «طه حسين.. وثائق أدبية»، وحققه وقدم له الدكتور عبدالحميد إبراهيم فى «طه حسين.. الوثائق السرية»، ونشره سيد على فى جريدة القاهرة بعنوان «وثائق طه حسين المجهولة»، وما أصدرته دار الكتب والوثائق القومية، بعنوان «خطبة الشيخ»، وآخرون. ونواة أغلب ما قُدم فى ذلك، بضع مراسلات وخُطب ومحاضرات ووثائق، قَلَّ حظ سنواته فى «المجمع» (1940 - 1973م) منها، فتبدّت هذه الفترة تقريباً ككوة ظلماء فى جدار حياته، على الرغم من أن الرجل لم ينفك يحاضر ويناقش ويداخل ويعقب ويطرح ويتساءل، ولم تضن الآلة الكاتبة والمحبرة والورق بحفظ ذلك كله فى محاضر جلسات ورقية، ظل كثير منها على أصالته، محتجبةً كاحتجاب القمر فى سرادق الغيم، دفينةً مُضيَّعة، منزويةً إلى جدران «المجمع» الذى لم يعرف استقراراً فى عقوده الثمانية، وقد لفَّها المجهول وطواها النسيان، بين ثنايا المهترئ الممزَّق البالى من الورق، دون طباعة أو ترقيم أو تجليد أو نسخ أليَق، وإن لم تسلم من تفريط بعض القائمين على «المجمع» عام 2003م، ممن تخلصوا من عشرات الأطنان من هذه المحاضر بيعاً بـ«الكيلو»، إيثاراً لنظافة المكان!، بحسب مصادر بـ«المجمع» سردت لـ«الوطن» تفاصيل الواقعة، التى لم تكن الأولى: «تكرر الأمر أيضاً قبل سنوات، فبعد انتهاء ساعات العمل بالمجمع، توقف بعض الموظفين فى طريق عودتهم لدى إحدى عربات البطاطا بغرض شراء بعض حباتها، ففوجئ أحدهم بأن البطاطا قد لُفَّت بإحدى هذه الأوراق، ولما أُثير الأمر فى المجمع، وكان بحوزتهم ما وجدوه من بعض هذه الأوراق، تم التكتُّم على الواقعة، وأراد لها البعض أن تبدو كالدعابة يضحك منها الناس، ولم يُفتَح فيها تحقيق داخلى، ومرَّت دون مساءلة، يتناقلها العاملون شفاهةً داخل المجمع».

صراع عميد الأدب العربى مع "الأزهر" و"دار العلوم" ووزارة المعارف: هاجم احتكار المؤسسة الدينية للغة.. وحاججها بأن "آيات قرآنية تخالف النحو"

ولما وقر فى النفس وجلٌ من أن لا نؤديه حقه الذى هو أهل له بين أرباب صناعة الأدب، لقيَنا فى اقتفاء ما قاله فى عقوده الثلاثة بـ«المجمع» نصب كبير، لولا دعم بعض مصادرنا هناك، ممن خبَّرونا، تيسيراً للمهمة، أن مشاركات طه حسين المحصورة فى محاضر جلسات الدورات من «7» عام 1940م، حتى الدورة «40» عام 1973م، ظل على أصالته منها محاضر جلسات الدورات من «25» عام 1959م حتى «37» عام 1971م، وقعت فى ما يوازى 20 مجلداً بحجم «رُزمة ورق الطباعة A4»، بإجمالى 10 آلاف ورقة تقريباً، لسقوطها من أعمال الطبع، التى تولتها الهيئة العامة للمطابع الأميرية مطلع سبعينات القرن المنصرم.

رأى أن المعاجم المتوارثة توقفت عند آخر العصر الأموى.. ولم يمانع فى قبول ألفاظ الحضارة من عامة المجتمع بشروط أهمها أن توافق أوضاع اللغة

و«مجمعيات طه» أكبر من أن تسعها بضع صفحات نقدمها بين يدى القارئ، وما نقدمه مستخلص نصى لآراء أثارها وناقشها، وإن لم تخلُ من بعض ذكريات مرابع صباه.

داخل إحدى قاعات الطابق الأول بـ«المجمع» مُنحنا أسبوعاً كاملاً لاستنطاق محاضر الجلسات عما خلَّفه طه حسين، وقد صار لبصرنا عادة البحث فى صدارة محاضر الجلسات، للكشف عن موقع اسمه من بين الحضور. أوراق بالية أذهب عنها الزمن نضارتها الأولى وفارقها يفوعها المبكر، وحوّطها الإهمال بذبول يزكم الأنوف بطلع رائحته المعتقة حبيسة الزمن الطويل.

اقترح تخصيص 1000 جنيه جائزة لأفضل بحث لتيسير الكتابة.. وأرجع فشل التعليم لصعوبة القراءة.. وأكد أن إغلاق باب الاجتهاد فى الصرف والقواعد مستحيل

كنا كمن يتلمس بأنامله تاريخاً أبى النسيان هضمه، وبلغنى من الغبطة والحبور أن الورق الذى جاور حضوره الفيزيائى، متلقفاً ما ينضح به لسانه وتفيض به بعض نفسه، ومعين خياله المجنح، صار قاسماً بينه وبينى، فأقلب الأوراق ذاتها، وقد كساها غبار الدهر، فاصفرت وذبُلت.. أوراق لم يعرفها يوماً ثلاثينى مثلى، سميكة كأوراق «البنكنوت»، تتراءى كنسيج دقيق متشابك الخطوط طولاً وعرضاً، إن أمعنته نظرك تارةً، وهش يوشك أن يتداعى من شدة الوهن تارة أخرى.

ورُوعى فى تحرير «المحاضر»، سلامة العبارة، فقد اشترط طه حسين ذلك حينما رأس المجمع اللغوى: «لا يجوز بتاتاً أن يكون بمحاضر مجمع اللغة العربية أدنى خطأ نحوى أو لغوى، وإذا سُجل فى المحضر على لسان العضو عبارة غير صحيحة، فيجوز للتحرير أن يصححها، بشرط أن لا يبعد عما كان يريد العضو أن يقوله».

شكا تدهور تعليم اللغة فى المدارس: طلبة الثانوية لا يحسنون العربية ولا القراءة.. والتعليم نفسه يقوم على أساس غير سليم

وقد تقع محاضر أعمال الدورة الواحدة فى جزء أو أكثر، كما هو الحال مع أغلب أعمال الدورات من «25» إلى «36»، على وجه التحديد، ومساهمات طه حسين فى «المجمع» على اتساعها، محصورة فى قرابة الـ33 دورة (نحو 45 مجلداً)، بدأت منذ أن كان عضواً عام 1940، مروراً باعتلائه منصب نائب الرئيس، وصولاً إلى رئيس المجمع خلفاً للراحل أحمد لطفى السيد، وحتى وفاته، واختص أغلبها بأعمال متابعة النظر فى مصطلحات اللجان المختلفة كلجان الأدب، الكيمياء والصيدلة، الطب، المعجم الكبير، تيسير الكتابة، ألفاظ القرآن، الفلسفة، والأحياء والزراعة. وأغلب خطاباته ومحاوراته هناك كانت ارتجالية، غير مُعدَّة سلفاً، لطبيعة حال المناقشات المفتوحة من الأخذ والرد.

نزع أوهام القداسة عن "لغة الضاد".. وعارض إغلاق باب الاجتهاد فى أمورها.. ودافع عن مشروعه لـ"عالمية العربية" طوال 3 عقود

وللمحاضر «ديباجة» شبه موحدة، فيُوزع النص على الورقة، بعد البسملة فى أعلى المنتصف، فتوضع عبارة: «مجمع اللغة العربية» فى أعلى يمين الصفحة، وأسفلها عبارة: «مجلس المجمع» وأسفلها: «رقم الدورة»، بينما تُوضع أجندة أعمال الجلسة، أو ما سُمى بـ«الفهرس» إلى أعلى اليسار، متضمنةً ما سيُناقش من موضوعات، بُغية التوصل إلى قرارات بشأنها، وكانت تلك القرارات تُدوَّن مُرقمةً فى نهاية «المحضر».

تورد «المحاضر»، 25 نوفمبر 1940م، تاريخاً دقيقاً لصدور مرسوم وزير المعارف العمومية بتعيين طه حسين، وآخرين أعضاءً عاملين بمجمع اللغة العربية، فينص فى المادة الأولى: «يضم إلى الأعضاء العاملين الحاليين بمجمع اللغة العربية كل من السادة: محمد حسين هيكل، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والدكتور على إبراهيم، والشيخ محمد مصطفى المراغى، وعبدالعزيز فهمى، وأحمد لطفى السيد، وعبدالقادر حمزة، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين»، فيما تضمنت المادة الثانية إلزام وزير المعارف العمومية تنفيذ المرسوم.

"العميد" كان كثير الاستدعاء لـ"المعرى" و"ابن مضاء" و"السكاكى" للبرهنة على أفكاره.. ووصف نفسه بـ"المتشدد الذى لا يبتدع فى العربية"

ثم ها هو الثلاثاء 3 ديسمبر 1940م، والذى لم يكن يوماً عادياً فى حياة «صاحب الأيام»، ففيه وفدَ إلى اجتماعات مجلس «المجمع»، الواقع آنذاك فى 110 شارع قصر العينى، أول مرة، وقد ترأس الجلسة رئيس المجمع الدكتور محمد توفيق رفعت، بحضور المُعينين الجدد، ومن بينهم ذلك الذى كان الصمت طبعه، يرقب فى هدوء سيرورة المناقشات ودورتها، دونما تعليق منه، حسبما تجلى من محضر الجلسة.

دُوِّن اسمه بين الحضور، لم يُشِر محضر الجلسة إلى شىء استثنائى فى أيامه الأوَل بـ«المجمع»، إلا فى قرار وزارى صدر فى 19 ديسمبر 1940م، بتأليف مكتب «المجمع» بعضويته، ووكيل وزارة المعارف، والدكتور منصور فهمى، والأستاذ أحمد أمين، والشيخ إبراهيم حمروش، إلى جانب رئيس المجمع.

كان حرصه على حضور اللجان عادة ألفها فى بواكير سنواته هناك، كما تدلل محاضر الجلسات على حضوره الدائم، ثم ها هى نظرة خاطفة دون رجع للبصر حتى يُلحظ اسمه من الحضور، مشاركاً فى أعمال متابعة النظر فى المصطلحات العلمية والأدبية والعام الشائع من الألفاظ، دون ممانعة من قِبله لقبول اللفظ إذا ما كثر شيوعه على ألسنة العامة، فـ«العربية» فى قاموسه «مرنةً»، والمعاجم لديه «كائن حى خاضع للنمو والتطور»، أو هكذا يجب أن تكون، وكانت كذلك مساعيه.

غاية "النحو" عنده: "تقويم اللسان بشرط عدم الخروج عن الأصول".. وتمسك بمصطلحات العلوم دون تعريب

لم يفارقه طيف صديقه القديم، أبى العلاء المعرى، الذى شاركه محنة فقدان البصر، وكان موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه، وعدَّ صوته فى النفس أعذب الأصوات وأحبها صدى إلى فؤاده، فيستدعيه إلى الجلسات فيُلبيه غير مبطئ ولا متثاقل، كلما أرادت نفسه البرهنة على طرح ما، فيذكره ومعه قدامى آخرون كـ«ابن مضاء» و«السكاكى» و«النويرى» وغيرهم ممن سبر أغوار آدابهم فى باكر حياته.

والحقيقة أن عشق طه حسين لـ«العربية» قديم، سابق بكثير على سنواته فى «المجمع»، وقد أولاها عنايته مبكراً، واشتبك سالفاً بمضيّعيها ومحتكريها ممن خاصمهم فيها وصبَّ عليهم جامّ نقده، كما فى كتبه «لحظات»، و«حديث الأربعاء»، و«فى الأدب الجاهلى»، و«من حديث الشعر والنثر»، و«مستقبل الثقافة فى مصر»، وهى كلها كُتب سبقت دخوله «المجمع»، وأعقبها مستكملاً ما بدأ من الحديث عن واقعها الأليم فى كتبه: «ألوان»، و«أدبنا الحديث ما له وما عليه»، و«فصول فى الأدب والنقد»، و«تقليد وتجديد»، و«من بعيد»، و«من أدبنا المعاصر»، و«خصام ونقد»، و«حافظ وشوقى»، و«من لغو الصيف».

تولى طه حسين مهمة الإشراف على المعجم اللغوى الكبير، وكان مقرراً للجنة الأدب بـ«المجمع»، ولأنه رأى أن مهمته فى «المجمع» ينبغى أن تكون فى معزل عن أمور الحكم والسياسة، فقد عارض فى أعقاب وفاة محمد توفيق رفعت باشا، رئيس المجمع، رأى العضو أحمد أمين، من «ألا يُرشح لعضويته من هو من رجال الحكم الحاضر وقت الانتخاب، بما يمنح للمجمع هيبةً، فلا يقال إنه انتخب رجلاً من رجال الحكم الحاضر تملقاً له، أو بإيعاز من أية جهة»، وعلق قائلاً: «أقول بإخلاص إنى أرفع المجمع عن مثل هذا الانزلاق، وأعتقد أن يكون المجمع فى رأى نفسه أرقى من هذا، ولا حرج على المجمع أن ينتخب الكفء أياً كان، لا ينظر إلى رجال الحكم أو غير رجاله، ولن يقول أحد إن المجمع يتملق الحكام، ومهما نعمل فلن نمنع الناس أن يقولوا ما يشاءون، وإنما المهم أننا حين نقدم على الانتخاب نسأل أنفسنا: أفكرنا أم لم نفكر فى إرضاء حكومة ما؟ وأظن أننا لا نفكر. لو جاءنا إيعاز بانتخاب رئيس حكومة، لنظرنا: أنافع هو للمجمع أم لا، فإن كان نافعاً انتخبناه، وإلا عارضنا، وإذا أدى الأمر إلى إرغام قدّمنا استقالتنا، فالمجمع حر طليق فى اختيار من يرى فى اختيار مصلحة محققة له».

اللغة لديه "حية" والمعاجم "كائن خاضع للنمو".. ويؤكد لـ"أحمد أمين": من حقنا أن نرتجل كلمات لمعانٍ جديدة لأن لغتنا لم تمت

المُقلب لأوراق الجلسات يتجلى له نزوع طه حسين نحو تبنِّى مشروع لـ«عالمية العربية» بُغية أن يكون للغة الضاد حظ موفور يليق بها، كسائر اللغات، وعماد ذلك مقترح لـ«تيسير الكتابة العربية» وآخر لـ«تحديث الفصحى» و«تجديد اللغة» و«إصلاح النحو»، انطلاقاً من فضيلة الاجتهاد التى قدّسها، ودافع عنها باستماتة، دون أن يكفكف مناكفته ومحاردته، الأعضاء بشأنها.

حرِصَ طه حسين على «العربية» حرْصَ الوالد على مولوده، وما تقريظ عبدالعزيز فهمى، عضو المجمع، فيه بشىء من الغلو أو المصانعة: «أما رجلنا النابغة الدكتور طه حسين فإنه من خير عشاق العربية، وهو شخصياً يود أن لو استطاع تعليمها للناس وتفقيههم فيها فى يوم واحد وليلة، لكنه بإغراقه فى تمنى هذا المستحيل أصبح، كما أشرت إليه فى بعض الجلسات السابقة، لا يمل المناكفة بسببها كلما طاف به طيفها، فقارن بين حالها وحال ما يتقنه من لغة أجنبية حديثة أو قديمة. حتى لقد أصبحت هذه المناكفة بسبب العربية ديدناً له، ومن أخص لوازمه البادية للناس أجمعين. فلكأنى به يريد استبقاء الرسم الحالى كى ما تبقى الفرصة سانحة لمحاردة معلمى العربية بالمدارس فى كل سنة، وإسماعهم من قبَل رجال وزارة المعارف وغيرهم تلك العبارة التى تُوجّه لهم بقصد استنهاضهم من أنهم قاصرون أو مقصرون، ولو اتخذت الحروف اللاتينية لضاعت عليه تلك الفرصة المحببة إلى نفسه المتوثبة. لكنى أعود فأقول: إنه متى جد الجد، زأر وحارد نفسه، وأبى أن يجعل عقله مطية لهواه».

ظل «طه» متوثباً لمشروعه منذ بداياته فى «المجمع»، وقد فطن إلى أن مفتتحه ونواته، تيسير الكتابة العربية، مُقترِحاً أن تضع الحكومة جائزة مقدارها 1000 جنيه لأحسن اقتراح فى تيسير الكتابة العربية، وأورد فى ذلك: «هذا من أنبل المقاصد التى يرمى إليها إنسان فى بلد يريد أن يتعلم، وإننا فى عصر ينص فيه الدستور على أن يكون التعليم عاماً وعلى وجه الإلزام، ثم توجد هذه العوائق التى تمنع من تعميم التعليم. فالتكليف يقتضى أن يكون المكلف متمكناً من إنجاز ما عليه. والحياة الديمقراطية تتقاضانا أن نعمل على إشاعة التعليم وتمهيده للعامة بتيسير وسائله. فمن طبيعة الأشياء إذن أن تكون الكتابة ميسرة لكى يتيسر التعليم، وأكبر الظن أن فشل التعليم الإلزامى يرجع إلى أن القراءة صعبة».

وخليق بلغة ناهضة أن يُكتب لنحوها شىء من التيسير، وقد أراد لها طه حسين، كبقية اللغات الأجنبية، ذات النحو الميسر، فيمضى قائلاً فى إحدى الجلسات: «لقد دعونا نحن إلى هذه الفكرة منذ سنين، متأثرين بالعقلية الحديثة بعد أن تزودنا بالثقافة الغربية، وبعد أن رأينا نحو اللغات الأجنبية ميسراً، فأردنا أن نكون كغيرنا موفورى الحظ من التحضر الحديث، نقيم نحونا على الظواهر الطبيعية المحضة. ومن عجيب المصادفات أن يكون مبدأ العدول عن ما بعد الطبيعة فى النحو آتياً من الغرب أيضاً، فصاحب هذه الفكرة قاضٍ من الأندلس، فهل هناك تناسب بين بيئة الغرب التى نشأ فيها مذهب ابن مضاء، وبين بيئة الغرب التى أثرت فينا نحن مثل هذا الأثر، ونزعت بنا مثل هذا المنزع؟».

وما لبثت نفسه إلا أن عاودها الافتتان بكتابة عربية مُبسطة، فيقول: «نحن لا نستطيع إطلاقاً أن نبسط اللغة مهما كانت شاقة عسيرة، ولكننا نملك تبسيط تعليمها فحسب، أما الذين يملكون تبسيط لغة من اللغات فهم أصحابها وعلينا تسجيل هذا التبسيط. إذا أردت الاجتهاد فى الصرف أو قواعد اللغة فهذا من حقك، ولا يملك أحد أن يغلق باب الاجتهاد فيه، إنما إذا أردت أن تغير فى اشتقاقات اللغة، فأنا أنادى بأن يقفل ذلك الباب».

والشك الديكارتى عند طه حسين منهاج لتقليب الأمور على وجوه الرأى، وقد عدَّه مدخلاً لتحفيز الاجتهاد، وعدم التسليم بمُسلمات كانت على زمنه بديهية، فثارت ثورته على ما تعارف عليه الناس وأجمعوا عليه تقليداً واتباعاً، ومن ذلك قوله: «الكتابة العربية الأولى لم تكن مضبوطة، وضبطها جاء متأخراً واجتهادياً شيئاً فشيئاً، وبحسب اجتهاد علماء اللغة الذين وصلوا فى اجتهادهم إلى ما نمشى نحن عليه الآن، وأتساءل: لماذا لا يباح لنا الاجتهاد، ونُمنع منه منعاً باتاً؟ ولماذا نسلم به للأقدمين وننكره كل الإنكار على أنفسنا؟ ولماذا لا يكون الأقدمون قد أصابوا فى بعض ما قرروا وقد أخطأوا فى بعضه الآخر؟ فمثلاً فى الزمن الماضى ما كانوا يكتبون الألف وسط الكلمة، ونجد ذلك كثيراً فى المصاحف. هذه المسائل يدرسها المجمع منذ زمن طويل يرجع إلى أيام المرحومين الشيخ أحمد الإسكندرى والشيخ حسين والى. وحقيقة الأمر أن بعض الأعضاء مترددون فى اجتهادهم خوفاً من النقد، ولقد تُلى القرآن قبل الخليل بن أحمد بدون شكل، ولما شكّل الخليل بن أحمد القرآن لم يتعرض له خليفة أو وزير، ولم يحاسبه أحد عما فعل. وأؤكد أنه لم يرَ أحد من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) نصاً من القرآن مشكولاً، ولم يُشكل القرآن إلا بعد قرن من الزمان».

انتزع طه حسين أوهام القداسة التى لاحقت اللغة فخالطت منها اللحم والعظم، وقاومت تيسيرها وتجديدها لقرون، فيُضيف: «أريد أن أقول إنه لولا أن شيئاً قد استقر فى النفس بأن الكتابة العربية لها لون من القدسية لما كان هناك مسوغ للمناقشات المستفيضة التى استمرت سنوات طوالاً. وأقول إنما بلغت عشرين سنة أو أكثر، فالواقع أن التفكير فى مشكلة الكتابة العربية بدأ قبل مفتتح هذا القرن، وكان أستاذنا لطفى السيد فى مقدمة من أثارها، وأذكر أنه كتب فى ذلك رأياً، وكان قاسم أمين يقول بأن القارئ العربى يجب عليه أن يفهم ليستطيع أن يقرأ، على العكس مما يفعل جميع الناس فى مختلف الكتابات، ونحن نوشك أن نقدس الكتابة، مع أنها شىء من عمل الإنسان لا علاقة بينه وبين القدسية، وفى كل هذه المناقشات لم نتعدَّ مشكلة الكتابة فى بعض صورها فإن لها صوراً أخرى لم تتناولها المناقشات وهى من أهم المصاعب التى تحول بين الطلاب وبين تعلم العربية».

وعارض طه حسين مقالة الشيخ محمد على النجار، عضو المجمع، فى أنه لا قياس فى اللغة، مُغلقاً بذلك باب الاجتهاد، فردَّها قائلاً: «أعتقد أن اللغة كائن حى يتطور مع الأمة التى تتكلم بها، فإما أن نكون عرباً فعروبتنا تبيح لنا ما أباحه العرب القدماء، وإما أن لا نكون عرباً لنبحث لأنفسنا عن اسم آخر، فنحن نحافظ على اللغة العربية الفصحى التى نقرأها فى القرآن والشعر ونقرأها فى بعض النصوص الصحيحة كالحديث، ونبيح لأنفسنا على نحو ما جاء فى القرآن وعلى نحو ما قال الشعراء وعلى نحو ما كان النبى وأصحابه يقولون، ونحن نملك اللغة كما ملكها القدماء، وكل ما يجب علينا هو أن نحافظ على طبيعة هذه اللغة، وألا نفسدها بالألفاظ التى لا تلائم طبيعتها أو بالاستعمالات التى لا تلائم طبيعتها، وطبيعة اللغة معروفة نتفهمها من نصوصها الأولى، وما سبقنا إليه القدماء من نحو وصرف وما إلى ذلك، أما أن تلزمنا بأن نكون مولدين أو غير مولدين فأذكر أن العرب الفصحاء فى جاهليتهم كان بينهم مولدون كثيرون وفى إسلامهم أيضاً».

وعلى الرغم مما ذهب إليه من الاجتهاد والتوليد فى اللغة، كعادة الأولين، فإنه يصف نفسه بـ«المتشدد الذى لا يبتدع فى العربية» قائلاً: «اللغة تراث الأمة العربية كلها، ولست أزيد فى هذا التراث إلا بتحفظ وتحقيق وتدقيق، حتى لا أفسد هذا التراث. نحن هنا فى المجمع ثلاثون أو أربعون لا نضع فى اللغة للأمة العربية الكبيرة، وإنما مهمتنا سلامة اللغة وحفظها، وأكرر أنى متشدد لا أبتدع فى العربية إلا فى أضيق الحدود».

ثم يمضى مُمسكاً بمقود الحديث: «من وسائل حماية اللغة العربية أننا حينما نستعمل بعض ألفاظها، نستعملها كما يحسن أن تُستعمل له. أما القول بأن اللغة خادم لنا وأننا نملكها فهذا حسن، ولكن إذا ملك الإنسان شيئاً فمن الواجب أن يُحسن القيام على ما يملك، وإلا فينبغى أن يُمنع من العبث بما يملك. فبعض شعراء العرب أنفسهم من العباقرة قد دفعتهم عبقريتهم إلى أن يعنفوا باللغة العربية، وسُجل عليهم أن فى هذا خروجاً عن المألوف، فلوحظ على الفرزدق مثلاً أنه أخطأ مرة فعيب ذلك عليه، فهجا من عابه فأخطأ مرة أخرى:

ولو كان عبدالله مولى هجوته.. ولكن عبدالله مولى مواليا

فقالوا له مولى موالٍ. فملكنا للغة العربية ليس معناه القضاء على بعض مقوماتها وأصولها، بل معناه أن نستغلها بحكمة ورفق، فلا يجوز أن أحذف منها ما أريد أو أزيد عليها ما أشاء، لكن يطلب منى رعاية اللغة التى ورثتها وحفظتها بأمانة ودقة».

ولأن «اللغة حية، والمعاجم ككائن حى خاضع للنمو والتطور»، كما يرى، فقد ذهب فى إحدى الجلسات إلى أن تاريخ اللغة العربية يوضح أن «العرب كانوا يرتجلون الكلمات، وكانوا أحراراً فى هذا الارتجال، كما أن اللغويين كانوا أحراراً فى إثبات ما يريدون إثباته من الألفاظ وإهمال ما لا يوافقهم منها»، ووافق رأيه فى ذلك ما ذهب إليه العضو الدكتور أحمد أمين، مضيفاً: «من حقنا أن نرتجل كلمات لمعانٍ جديدة، لأنى أعرف أن اللغة حية لم تمت بعد، ففى وسعها إذن أن نرتجل وأن نستعير وأن نتصرف بغير الارتجال والاستعارة، كما فعل العرب القدماء وإلى أبعد مما فعل العرب القدماء. فهكذا تعيش وتنمو كل اللغات.. وكل يوم يقترح الإنجليز والفرنسيون الكثير من الألفاظ، ويوم يوجد المعنى الجديد الذى يحتاج إلى لفظ جديد فسأضع هذا اللفظ».

وزاد على ما سبق بُغية الإيضاح مُعلقاً: «الفكرة التى يريدها زميلنا الدكتور أحمد أمين هى أنه إذا استعمل كتّاب يكتبون اللغة العربية الفصحى كلمة، وأكثروا من استعمالها حتى أصبحت مأنوسة مألوفة اشتهرت بينهم، تُعرض على المجمع، فإذا وجد أنها لا تناقض الأصول المتعارفة فى قواعد اللغة العربية، وافق عليها. الضابط هو أصول اللغة العربية فى قبول الألفاظ الأجنبية».

وعما إذا كان الارتجال يضر بسلامة اللغة، أكد قائلاً: «إذا جاء أحد ووضع لفظاً مرتجلاً نعمد إلى تذوقه من ناحية اللغة فنسيغه أو لا نسيغه».

كان طه حسين ساخطاً أيما سُخط على من سماهم «محتكرى تعليم العربية»، يعنى بهم الأزهر و«دار العلوم» ومعاهد اللغة، وأنكر نفع آثارهم فى النحو والصرف بعد إحصاء، وما كتابهم المدرسى فى عُرفه ومنظوره إلا «ضئيل نحيف جدب لا يفى بالحاجة، عسير كل العسر على وجهه»، وقد أسرف فى دحض احتكار الأزهر للغة العربية يوم قال فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»: «فالذين يزعمون أن الأزهر وحده هو الأمين أو هو الذى يجب أن يكون أميناً على اللغة العربية إنما يرون سخفاً من الرأى، ويقولون سخفاً من القول، لا يعتمدون فى ذلك على الدين؛ لأن الدين لا يُقصر حماية اللغة العربية على فريقٍ من الناس دون فريق، ولأن كثرة الذين وضعوا علوم اللغة العربية وأنضجوها لم يكونوا من رجال الدين، ولا يعتمدون على التاريخ، لأن الأزهر طرأ على علوم اللغة العربية بعد أن أزهرت وأثمرت ولم تطرأ علوم اللغة العربية على الأزهر، ولأن الأزهر حفظ هذه العلوم ولكنه لم يُنمِّها ولم يُضِف إليها شيئاً ذا خطر، فله الشكر على ما حفظ من هذه العلوم، وله الحق فى أن يشارك فى حفظها وتنميتها والإضافة إليها، ولكنه لن يمكَّن من احتكارها والاستئثار بها دون غيره من المعاهد والبيئات».

وقد حدّث «المجمعيين» بمقترح لتيسير «النحو» فقال: «اقترح المجمع تيسير النحو، وأرسل بذلك إلى وزارة المعارف حينئذ فلم تستطع شيئاً للمعارضة التى أُبديت وقتئذ، وكان الأزهر فى مقدمة المعارضين، والمعاهد التى تُعنى باللغة العربية، وتكونت فى كل منها لجنة ارتأت أن التيسير المقترح لا يجوز وكان لها وجهة نظر فى ذلك»، فيُنصت ثم يعاود الكرّة متسائلاً: «ولماذا لا يجوز التيسير وقد سبقنا إلى هذا منذ قرون ابن مضاء حين ألف كتابه فى النحو، ونحو البصريين تأثر تأثراً شديداً بكتب الفلسفة والعوامل والقياس وما إلى ذلك، وإننى أعتقد شخصياً أن خطأ خطيراً وقع فيه علماء النحو حينما اعتمدوا على الشعر وحده فى وضع قواعد النحو ولم ينظروا فيما جاء فى القرآن الكريم من آيات كريمة تخالف القواعد التى وُضعت فى البصرة والكوفة.. إن التعليم، وقد أصبح عاماً متاحاً للجميع، يجب أن نيسره على التلاميذ، فلا نفرض عليهم ما لا يستطيعون أن يفهموه».

ثم تراه يُسجل مُرَّ شكواه من موقف وزارة المعارف من «تيسير النحو» بعد معارضة الأزهر، فيقول: «الأصل فى المجامع أنها عنصر محافظ، إلا أن مجمعنا مجدد لا محافظ، فاقترحنا تيسير النحو ووضعنا له نظاماً أرسلناه إلى وزارة المعارف، ومن الغريب أن الذين كان يجب عليهم أن يسبقونا فى ذلك، لا يريدون حتى أن يتابعونا فيما رسمناه. من المؤسف أن وزارة المعارف تغير كتبها التعليمية على أساس النحو القديم دون أن تأخذ الجديد».

وغاية «النحو» عنده تقويم اللسان بشرط: «نحن نريد من النحو تقويم اللسان بشرط عدم الخروج عن أصول اللغة العربية، ويلاحظ أن اللحن من أهم أسباب الاختلاف فى القواعد وتحرج النُحاة من قولهم هذا خطأ. والمهم عندى أن نعلم التلاميذ نحواً فصيحاً على أحسن وجوه الاستعمال الملائمة، فإذا تقدم الطالب وتخصص عرّفته المذاهب واللهجات الأخرى، وأكتفى فى المرحلة الأولى بأن يعرف الطالب أن هذا مرفوع لأن العرب رفعته، وهذا منصوب لأن العرب نصبته، ولا أعلل له إلا يوم يستطيع فهم التعليل».

يواصل وفى نفسه حسرات من رداءة تعليم «العربية» فى المدارس: «إن طلبة الثانوية لا يحسنون العربية ولا يحسنون القراءة، وطلبة الجامعة ينسون العربية إذا درسوا التاريخ أو الفلسفة، والحقيقة أن دراسات اللغة العربية فى البلاد العربية كلها لن تستقيم إلا إذا أصلحتم شيئين: النحو والكتابة العربية»، فيسأله العضو الشيخ محمد محيى الدين عبدالحميد: «هل هذا سببه التعليم أو اللغة العربية؟»، فيرد: «سببه التعليم لأن التعليم نفسه يقوم على أساس غير سليم».

فى مذهبه لا يُعرف للغة تجديد دونما «تحديث الفصحى»، بوصفه ركناً من أركان النهوض باللغة: «نريد أن يمتاز معجمنا عن المعاجم المتوارثة الآن كلسان العرب والقاموس المحيط، فكل هذه المعاجم وقفت باللغة العربية الفصحى عند آخر العصر الأموى، ولكن يهمنا أن نهتم باللغة من حيث استعمال الجماهير لها، فيمكن أن نستشهد بكل ما ورد فى اللغة العربية الفصحى فى العصور الإسلامية المختلفة، كما يمكن أن نستشهد بشعر حافظ وشوقى وغيرهما، فنثب باللغة وثبة حقيقية تجعلها لغة حية تلائم العصر الحاضر والحالة العامة فيه».

فى سبيل ذلك، يتخذ «طه» القاموس المحيط عماداً لمشروعه، بُغية تيسير التطبيق، فيوُرد قائلاً: «لو اتخذنا القاموس المحيط أساساً لمعجمنا الكبير وتجنبنا ما يؤخذ عليه الآن، وأخذنا معه الألفاظ المولدة لنرى مدى مطابقتها للصيغ العربية، وأدخلناها فى الاستعمال لخرجنا من ذلك بمعجم مطول يتضمن من المجلدات ضعف ما يتضمنه المعجم الأصلى».

ولأنه لم يؤمن قط، كما قال فى «مستقبل الثقافة فى مصر»، بأن للغة العامية من الخصائص والمميزات ما يجعلها خليقة بأن تسمى لغة، إنما لهجة من اللهجات قد أدركها الفساد فى كثير من أوضاعها وأشكالها، وهى خليقة أن تفنى فى اللغة العربية الفصحى إذا مُنحت ما يجب لها من العناية، فإنه يعى تماماً ببصيرة نافذة وقلب وضَّاء أن ما يُقره «العامة» فى المجتمع من تداولهم للكلمات الدخيلة غير العربية، يصعب أن يُنزع من أفواههم، فينصح بقبوله بشروط: «ألفاظ العلوم يضعها العلماء، وألفاظ الحضارة يضعها المجتمع، وليس فى مقدور المجمع أن يضع الألفاظ تشريعاً للناس، فمثلاً كلمة سيارة ذاعت فى المجتمع، وليس فى مكنتنا أن ننزعها من الأفواه ولا أن نرد الأقلام عنها، بل نقبلها قبولاً حسناً ونضعها فى معجمنا.. ما وسيلتنا إلى الذوق العام؟ الوسيلة الحقة هى أن ننظر هل استعمل الكتّاب هذه الكلمة؟ وهل هى مقبولة فى أوضاع اللغة مرضى عنها؟ فإن كانت كذلك أخذناها. وليس من مهمة المجمع أن يضع ولكن يقبل ما يُستعمل إن رآه ملائماً، فإن لم يره فلا يسجله.. نحن لا نقبل الكلمات التى كثر استعمالها دون أن نحتاط، فإننا إذا لم نحتط أفسدنا العربية على عمد، ويحسن أن نبحث عن كلمات ملائمة تؤدى مؤدى الإفرنجية بالضبط، فإذا وجدناها كان ذلك حسناً. ليس التسجيل معناه أن كل كلمة تؤخذ».

والتخصص مقدس لديه، فلا ينزع صوب الاشتغال بغير ما يفقه، فضلاً عن الأمانة فى النقل والإشادة بالفضل، فيعاود مضيفاً: «فى الحقيقة إن مسألة التخصص فى بعض اللغات القديمة مسألة مهمة جداً، لأن اللغة العربية تحتوى على كلمات كثيرة جداً معربة منذ العصور القديمة انتقلت إليها من الفارسية واليونانية، ومثل هذه المسائل ينبغى أن نشارك فيها، فإذا صادفتنا كلمة جاءت من أصول هذه اللغات أمكن أن نقول إن أصل هذه الكلمة آتٍ من كذا، فكلمة (سيف) وكلمة (قلم) معربتان، ومن الذى يتصور أن كلمة (صراط) هكذا؟».

وفى المسألة ذاتها، يتساءل: «لاحظنا فى كثير من المصطلحات المعروضة علينا أننا نحاول ترجمة ألفاظ علمية عالمية لم يشأ الإنجليز ولا الفرنسيون ولا غيرهم أن يترجموها مع إمكان ذلك لهم، ولكنهم أبقوا الألفاظ لأنها لاتينية الأصل أو يونانية، فهل من المصلحة أن نترجم هذه المصطلحات العالمية بألفاظ عربية؟»، فيُجيبه على توفيق شوشة، عضو «المجمع» بالقول: «نحن نجرى فى ترجمة المصطلحات العلمية على أسلوب الألمان فى ترجمتها، فهم لم يبقوا الألفاظ الأصلية، وإنما وضعوا لها ألفاظاً ألمانية تعبر عنها، وأخشى أننا إذا أجرينا على التعريب المطلق، عُدّ هذا منا هرباً من الميدان».

ليعاود «طه» الإمساك بمقود الحديث مُعقباً: «يلاحظ على الألمان أنهم اتخذوا هذه الخطة طوعاً لنعرة وطنية، وليس هذا الأسلوب موضع تقدير العلماء، ورأيى أن كل كلمة عالمية تبقى فى العربية بلفظها. إننا نأخذ هذه الألفاظ العربية من المعاجم لندل بها على ألفاظ علمية دقيقة اصطنعها العلماء، والألفاظ العربية وُضعت وضعاً عاماً لم يُقصد به دقة علمية، فكيف نترجم ما صنعه العلماء عن تحقيق ودقة بألفاظ وضعها البدو كيفما اتفق؟ منذ القرن السابع عشر، ابتدأ الإنجليز والفرنسيون يتعلمون العلوم بالإنجليزية والفرنسية، ومع ذلك استبقوا المصطلحات بلغتها الأصلية. الرأى الذى أدافع عنه أن نحتاط ما استطعنا فى الألفاظ التى حافظ العلماء عليها كالألفاظ اللاتينية أو اليونانية القديمة والتى ترك العلماء لغتهم الحية وأبقوا عليها، ولكنى موافق على أن نسير فى الترجمة وعلى أن نترك الألفاظ المستعربة التى قد لا يفهمها الطالب إلا بعد مجهود وعناء».


مواضيع متعلقة