يحتفل المغرب ومصر هذا العام، بالذكرى الستين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، أما ما يجمع حقيقة شعبى البلدين فهو تاريخ طويل من العلاقات المتميزة والدافئة، التى لم يعكر صفوها سوى بعض الخرجات الإعلامية المتهورة بين الفينة والأخرى فى الاتجاهين، التى لا تعكس بالنهاية سوى آراء أصحابها ولا تعبر عما يجمع الشعبين الشقيقين، من علاقات تقدير ومودة تمتد جذورها عبر التاريخ.
وعندما نتحدث عن المغرب ومصر، فنحن نتحدث عن تلك العلاقات العميقة ذات الخصوصية المتفردة والعبق الخاص، الذى قل نظيره، والذى لا يوجد إلا فى العلاقة الطيبة بين هذين البلدين الكبيرين، اللذين جمعتهما سمات مشتركة، لا يستطيع هذا المقال تلخيصها، تمخض عنها تقارب فى المسيرة التاريخية وارتباط على مستويات متعدّدة، سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية وسياسية.
فقد ظل المغرب يؤثر فى مصر؛ بل إن القاهرة، بمعناها الواسع، شيّدها المغاربة، والمدينة لا تزال تحتفظ بأسماء قبائل مغربية حلت بها من قبيل الزويلة وكتامة والباطنية والبرقية وغيرها؛ من خلال شريان رئيسى استمر ناشطاً عبر قرون، وهو ركب الحج الذى كان يعبر البر المصرى ولم ينقطع إلا سنة 1969 مع ثورة الفاتح فى ليبيا. فالحجاج المغاربة كانوا لا يتوقفون ولا يستقرون إلا بمصر التى يصلونها بعد ثلاثة أشهر من سفرهم، فيرافقون كسوة الكعبة المشرّفة التى كانت تُصنع فى مصر إلى غاية 1961.
وتاريخ العلاقات بين مصر والمغرب أخذ أيضاً جانب الدعم العسكرى، وهناك حديث عن رحلات المغاربة الذين ساندوا مصر فى أزمنتها الصعبة، من قبيل حديث المؤرخ الجبرتى عن أفواج المغاربة الذين قدموا إلى مصر للجهاد ضد حملة نابليون، وكذا حضور الجنود المغاربة فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية.
وأيضاً دعم مصر لاستقلال المغرب، واستقبال مصر لزعيم المقاومة فى الريف وأحد أعظم مؤسسى المقاومة الشعبية للاحتلال فى التاريخ العالمى المعاصر الزعيم عبدالكريم الخطابى، أمير المقاومة فى الريف بشمال المغرب الذى قاوم الاحتلال الإسبانى، ثم الفرنسى، بشكل سجّله له التاريخ بأحرف من نور، وبقى فى مصر لفترة.
ومن المحطات التاريخية الأخرى، إطلاق الزعيم المغربى علال الفاسى نداء القاهرة بعد نصف الساعة من خروج الملك محمد الخامس إلى المنفى عام 1953، وإسهام مصر فى مرحلة كفاح المغرب من أجل الاستقلال والدور المهم لإذاعة «صوت العرب»، ومكتب تحرير المغرب العربى، الذى لعب دوراً مهماً فى هذه المرحلة التاريخية من تاريخ المغرب الحديث. وكذلك هناك مشاركة الملك محمد الخامس فى وضع حجر أساس السد العالى مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
وعلى المستوى الروحى، كان لمصر دور فى نقل الإسلام إلى المغرب، ودور آخر فى النصف الثانى من القرن الثانى للهجرة، فى التسهيل والتستر على المولى إدريس الأول كى يمر إلى المغرب، وما ترك هذا العمل من آثار لا حدود لها فى العلاقات بين البلدين، فوصول الأدارسة فراراً من الاضطهاد العباسى إلى المغرب، واستقبالهم من المغاربة ومعرفة من ساعدهم فى هذا الوصول ترك أثراً طيباً فى نفوس المغاربة. كما ثمة ندية ثقافية بين الشعبين، فالثقافة المصرية جزء أصيل من التكوين الروحى المغربى والإرث المغربى الروحى ماثل فى مصر من التصوف، إلى العمارة، إلى الموسيقى.
والأزهر باعتباره مركز العالم الإسلامى الآن، هو من تشييد المغاربة، وعمارته عبارة عن نسخة من مسجد القرويين فى فاس عاصمة المغرب العلمية، التى كان ينطلق منها ركب الحج إلى مكة، عبوراً من مصر، والزائر المغربى للأزهر يرى التشابه القوى بمسجد القرويين، خصوصاً فى الركن الفاطمى.
أما على المستوى الثقافى والفنى، فلا تزال مصر إلى اليوم قبلة المثقفين والفنانين المغاربة وبوابتهم للعبور إلى الشهرة. هذا وقد شكلت روايات نجيب محفوظ وطه حسين ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وإحسان عبدالقدوس وغيرهم، وجدان القارئ والمثقف والمفكر المغربى، فيما لا تزال أصوات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ تصدح فى مختلف الأسواق الشعبية المغربية التى احتفظت بوفائها لمطربى مصر، مطربى الزمن الجميل.
ولا يخفى على أحد الصداقة التى جمعت العندليب بالملك الراحل الحسن الثانى، والتقدير الكبير الذى كان يكنه هذا الأخير للسيدة أم كلثوم التى كانت لها زيارة تاريخية للمغرب، وهى احتفالات المملكة بعيدها الوطنى، حيث حرص الملك الحسن طوال الزيارة على أن يتابع بنفسه مقام «أم كلثوم» بالمغرب، وأن يعطى تعليماته بالسهر على راحة «أم كلثوم» ومرافقيها.
إن ما يجمع بين المغرب ومصر هو أكبر بكثير من ستين عاماً من العلاقات الدبلوماسية، فهو تاريخ مشترك حافل، وإرث روحى وثقافى وحضارى، ومحبة متجذرة بين الشعبين، يجب ألا يسمح لأحد أو لجهة بالمساس بها أو محاولة النيل منها أو إطفاء وهجها، المسئولية على حكماء البلدين للتدخل كلما استدعى الأمر، من أجل الحفاظ على مسار هذه العلاقات ووضع الأمور دوماً فى نصابها، بحيث تبقى المحبة فى دارها وتستمر مسيرة التلاحم بين البلدين الشقيقين.
وكل عام والعلاقات المغربية - المصرية بألف خير.