بجرأة تحسد عليها استطاعت النجمة «يسرا» تحطيم الصورة النمطية للبطلة الطيبة الخالية من المثالب والعيوب، ونجحت فى تخطى النموذج التقليدى للشخصيات التى تحاصر النجوم فى الأعمال الدرامية، خرجت من قوقعة المثالية وشرنقة البحث عن الكمال، لتحلق عالياً فى مساحة من الإبداع أكثر رحابة وعمقاً، وتتجلى فى دور من أجمل وأصعب الأدوار التى تقمصتها على الشاشة، وتذوب فى حالة من التعايش الفنى مع شخصية درامية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والقسوة والشر المستساغ!!
اقتحمت يسرا أعماق «رحمة حليم» خبيرة التنمية البشرية الناجحة، التى تحتفظ أمام الجميع بالوجه الطيب المتسامح المحب للآخرين، وتخفى تحت هذا القناع وجهاً آخر يضمر الحقد والشر والغل والكراهية!
عرفت «يسرا» كيف تلتقط مكامن قوة هذه الشخصية الصعبة، وتمسك بوعى كامل الأبعاد النفسية والاجتماعية لشخصية «رحمة» السيدة التى عانت من اضطرابات وصراعات وضغوط، أسكنتها مصحة نفسية فى طفولتها، وولدت لديها طاقة هائلة من الشر والكراهية والانتقام، جعلتها تتلذذ بإلحاق الأذى بمن حولها، وتتخذ من تلك الطاقة المدمرة وسيلة لتحقيق أهدافها ورغباتها وأطماعها، وأداة للحفاظ على الصورة التى رسمتها لنفسها فى المجتمع. إن الخوف من انطباعات الجمهور ونظرة المجتمع للشخصيات غير السوية، حرم نجمات كثيرات من فرص عظيمة، وأدوار تمنحهن مساحة عريضة من الإبداع وتؤكد قدراتهن الفنية، ويحضرنى هنا ما ذكره لى المخرج الكبير صلاح أبوسيف عن الجهود التى بذلها مع الفنانة القديرة فاتن حمامة، ومحاولته العديدة لإقناعها بأداء دور «نفيسة» فى فيلم «بداية ونهاية» المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، وكيف باءت كل محاولاته لإثنائها عن الرفض بالفشل، ولكن أثناء حضورها العرض الأول للفيلم برفقة زوجها السابق عمر الشريف، فوجئ بها تعترف بشعورها بالندم على رفضها تجسيد تلك الشخصية!
لذا فإن «يسرا» تستحق كل التحية والإشادة ليس فقط على تجسيد شخصية شريرة جديدة عليها تماماً، وإنما أيضاً على مساندتها لاثنين من الكتاب -عبدالله حسن وأمين جمال- يقدمان أولى تجاربهما الدرامية من خلال مسلسل «فوق مستوى الشبهات»، ذلك العمل الدرامى المتميز الذى يقوم بتشريح العلاقات الاجتماعية والنفسية لشريحة من الطبقة الراقية، ويكشف الوجه الآخر لمجتمع يعانى نوعاً من الازدواجية وتدمير الذات، مجتمع يكذب ويتجمل ويعيش تحت وطأة الخداع والزيف والاضطرابات النفسية والسلوكية. وقد استطاع المخرج المبدع هانى خليفة أن يحافظ على إيقاع يجمع بين التشويق والإثارة، ويقدم تحليلاً عميقاً للأبعاد النفسية للشخصيات، دون أن يفقد المشاهد المتعة ويغرق فى حالة من الكآبة، وذلك بداية من أغنية التتر البديعة للمطرب محمد رشاد، لحن الفنان المتميز دائماً عمرو مصطفى، وكلمات المبدع د. مدحت العدل الذى تبدو بصماته الإبداعية واضحة على العمل.
والحق أننى لا أرى غرابة فى تعرض عدد غير قليل من الأعمال الدرامية لموضوعات تتعلق بالعقد والأمراض السيكولوجية، فما يعانيه المجتمع خلال السنوات الأخيرة من ضغوطات واضطرابات وتناقضات وإحباطات، أفرز العديد من المشاكل النفسية، وفرض نماذج وأنماطاً غير سوية من السلوك البشرى، ومن الطبيعى أن تدفع تلك التغيرات والسلوكيات عدداً من الكتاب لاقتحام هذه المناطق الشائكة فى المجتمع، وسبر أغوار تلك النماذج الإنسانية.
ونظرة إلى الإحصائيات الرسمية والدراسات العلمية كفيلة بأن تجعلنا ندرك حجم التحولات والمشاكل النفسية التى أدت لتزايد متوسط عدد المرضى النفسيين فى مصر بمعدل 50 ألف حالة سنوياً، ووصول عدد المرضى لما بين 6 و8 ملايين حالة، بما يعادل نسبة 8 إلى 10% من إجمالى المصريين، وندرك انعكاس تلك الضغوط النفسة فى المجتمع على تضاعف معدلات الجريمة بنسبة 130%، وارتفاع معدلات الطلاق لتصبح مصر الأولى على مستوى العالم! هذا إلى جانب أن الإحصائيات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية تشير إلى تزايد هائل فى انتشار الاضطرابات النفسية فى العالم نتيجة لعوامل كثيرة ومتداخلة نفسية وبيولوجية واجتماعية، ووصول نسبة الإصابة بالاكتئاب الذى يطلق عليه مرض العصر إلى 7%، ويقدر عدد المصابين به عالمياً بحوالى 340 مليون حالة، وهو ما يؤدى إلى ما يقرب من 800 ألف حالة انتحار كل عام!
إن المشكلة ليست فى الموضوعات النفسية المهمة التى تطرحها تلك الأعمال على شاشة رمضان هذا العام، ولكن فى التناول الدرامى لتلك القضية، والإفراط فى مساحة الكآبة والسواد والقتامة التى غرقت فيها تلك الأعمال، وجعلت منها دراما منزوعة البهجة والمتعة الفنية.