(١) فى عام ١٩٩٠، قاطع الإخوان والأحزاب (الوفد - العمل - الأحرار) الانتخابات البرلمانية لعدم توافر ضمانات النزاهة.. ومنذ بداية عام ١٩٩٥، ونظام حكم مبارك يخطط لمنع الإخوان من خوض الانتخابات البرلمانية التى سوف تعقد فى نهايته، وتحديداً فى ٢٩ نوفمبر، حيث تم إلقاء القبض على المجموعة الأولى منهم، وعلى رأسهم عصام العريان فى ليلة ٢٢ يناير.. وفى ١٧ يوليو ١٩٩٥، أُلقى القبض على المجموعة الثانية، وكان على رأسها المهندس خيرت الشاطر.. ولما لم أكن موجوداً بأسيوط فى ذلك اليوم، فقد انتظر ضباط جهاز مباحث أمن الدولة عودتى إليها فى اليوم التالى.. ولما تأكدوا من وصولى، جاءوا إلى البيت فى وقت الظهيرة، وتم اقتيادى إلى فرع الجهاز بأسيوط.. مكثت هناك حتى الساعة ١٢٫٣٠ ليلاً، حيث تحركنا إلى القاهرة التى وصلناها الساعة ٦ صباحاً.. ولم تكن الحالة المزاجية، نظراً للظروف التى كنت فيها آنذاك، تسمح بالتمتع بجمال القاهرة فى هذا التوقيت، حيث الهدوء التام والجو البارد المنعش.. أُودعت فى «بدروم» مبنى نيابة أمن الدولة العليا، حيث اتخذت من أحد المقاعد مكاناً للنوم.. ظللت حتى الساعة ٢ بعد الظهر، وتم التحقيق معى، وصدر قرار النيابة بحبسى ١٥ يوماً.. انتقلت إلى سجن ملحق مزرعة طرة حيث كانت المجموعتان الأولى والثانية موجودتين.. وفى ٢ سبتمبر ١٩٩٥، تمت إحالتهما إلى محكمة عسكرية عليا.. وفى ٩ أكتوبر من نفس العام، واستكمالاً لمخطط نظام حكم مبارك، تم إلقاء القبض على المجموعة الثالثة، التى كان على رأسها محمود عزت وعبدالمنعم أبوالفتوح.. وقد أودعت هذه المجموعة أيضاً معنا فى سجن الملحق، وتمت إحالتها هى الأخرى إلى نفس المحكمة العسكرية.. فى إحدى الجلسات، سأل القاضى ضابط مباحث أمن الدولة الذى قام بجمع التحريات عنا: هل وجدت معهم سلاحاً؟ رد الضابط: لا. قال القاضى: فهل قاموا بأى عنف؟ أجاب الضابط: لا. لكن، كانت هناك التهمة الدائمة وهى الانضمام إلى جماعة مؤسسة على خلاف الدستور والقانون.. وفى ٢٣ نوفمبر ١٩٩٥، صدرت الأحكام العسكرية؛ خمس سنوات لكل من محمد حبيب، خيرت الشاطر، محمود عزت، عبدالمنعم أبوالفتوح، وعصام العريان، وثلاث سنوات للآخرين.. بعدها مباشرة، تم ترحيلنا إلى سجن مزرعة طرة.. وفى ٢٩ نوفمبر ١٩٩٥، أجريت الانتخابات البرلمانية، حيث تم تزويرها كالمعتاد ولم يفز فيها أحد من الإخوان، اللهم إلا شخص واحد هو على فتح الباب، وكان على قائمة حزب العمل.
(٢) فى سجن مزرعة طرة، كنت أنا وخيرت الشاطر ومحمود عزت وأبوالفتوح والعريان، وآخرون، فى غرفة ٥ بعنبر ٣، أما الباقون (حوالى ٢٥ فرداً) فكانوا فى غرفة ٣ بنفس العنبر.. كان واضحاً أننا سوف نقضى الفترة كلها (أى الـ٥ سنوات)، فى هذا السجن، وهذا ما دعا الشاطر ليأخذ رأينا فى إعداد المكان وتأهيله بالشكل الذى يكون مريحاً، وإن كان -كما يقال- «السجن سجن، ولو كان فى جنينة».. وافقنا على اعتبار أن الشاطر سوف يتحمل معظم التكاليف، مع مشاركة القادرين، كل حسب إمكاناته.. بدأنا فعلاً فى التجهيز، بحيث تتحول الغرفة الكبيرة (٦ فى ١٨ متراً مربعاً إلى أماكن صغيرة من خلال تركيب مواسير وستائر، حتى يحتفظ كل واحد منا بخصوصيته؛ فى النوم، وصلاة الليل، وهكذا.. ويوضع فى كل مكان سرير، بصحارة أسفله.. وقد قام بإعداد هذه الأسرة المساجين الجنائيون.. بالطبع، تم ذلك كله بموافقة مباحث أمن الدولة.. غير أننا فوجئنا فى أحد الأيام ببعض ضباط مصلحة السجون -ربما بسبب وشاية من أحدهم- يأتون إلى عنبر ٣، لكى يروا ما أحدثه الإخوان.. ما زلت أتذكر جيداً ما قاله أحدهم (متهكماً) وهو يتجول بناظريه عبر الغرفة: إيه ده.. سجن ٥ نجوم؟! بعدها بساعات جاءت الأوامر بالانتقال بشكل عاجل إلى سجن ملحق مزرعة طرة.. واضطررنا إلى حمل ما يمكن حمله معنا، وانتقلنا فى نفس اليوم.. أمضينا ليلتنا فى سجن الملحق ونحن فى قمة التعب.. الأمتعة «مكومة» بطريقة عشوائية، وكانت أمامنا مشكلة التسكين، كل ثلاثة من الإخوان فى زنزانة.. فهذا يريد أن يسكن مع فلان، وذاك لا يريد أن يسكن مع علان، وهكذا.. لم نشعر حتى ببرودة الجو، فقد كنا فى يناير.. وكان علينا أن نستريح قليلاً، كى نتمكن من الاستيقاظ لتناول السحور، فقد كانت تلك الليلة هى أول ليالى رمضان.. فى هذا السجن استطعنا أن نرتب أوضاعنا سريعاً، وكان ثلاثتنا؛ محمد حبيب، خيرت الشاطر، ومحمد عبدالغنى (طبيب عيون من الشرقية) فى زنزانة واحدة.. وطوال شهر رمضان كانت تصلنا كل أطايب الطعام.. فى البداية كان سجناء كل زنزانة يفطرون معاً، لكن بعد وقت سُمح للسجناء جميعاً أن يفطروا معاً فى صالة العنبر.
(٣) مكثنا فى هذه الزنزانة ما يزيد على ٤ أشهر، وكان هناك تفاهم وتآلف بين ثلاثتنا على أفضل ما يكون، سواء فى نظام النوم أو مناقشة ما يعن لنا من أمور.. كان أهم ما يميز «الشاطر» كرمه الذى ورثه عن والده، فقد كان الأخير ينفق عن سعة، ولم يكن ولده يبخل على إخوانه بشىء.. وكان حريصاً على أن يتتبع المحتاجين منهم ويحاول مساعدتهم حتى ولو لم يطلبوا ذلك.. دفع من ماله الخاص -وهى مبالغ كبيرة- ثمن الأسرة (٦١ سريراً) التى تم تصنيعها فى سجن المزرعة، ولم يطالب أحداً من إخوانه، رغم قدرتهم، بدفع شىء.. وفى نهاية شهر أبريل ١٩٩٦، جاءت إلينا فى سجن الملحق المجموعة الرابعة، التى كان على رأسها محمد مهدى عاكف، بعد صدور حكم المحكمة العسكرية العليا عليه وعلى إخوانه (حسن جودة - محمود أبوريا - محمود العرينى - عبدالحميد الغزالى، وآخرين) بـ٣ سنوات على هامش قضية حزب الوسط.. وقد آثرت أنا ومحمد عبدالغنى أن نترك مكاننا فى الزنزانة مع «خيرت» للشيخين مهدى عاكف وحسن جودة لكبر سنهما، وحيث يمكن لخيرت الشاطر أن يقوم على خدمتهما.. المهم أنى كنت ألتقى «خيرت» بعد ذلك، فلا ألاحظ عليه الود الذى كان يبديه أيام أن كنا معاً، وكأننا لم نكن يوماً ما أصحاب زنزانة واحدة(!)، ولما أنكرت عليه ذلك صراحة، قال: لا تؤاخذنى.. أنا إنسان «عقلانى» ولا مكان للعواطف فى قلبى، هكذا.. ومن العجيب أنه لما كانت تقوم مشكلة بين «عاكف» وبينى، أجده يصطف إلى جوار «عاكف» دون تردد.. من جميل ما قاله الشافعى (رحمه الله) هذين البيتين: فما كل من تهواه يهواك قلبه.. ولا كل من صافيته لك قد صفا - إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة.. فلا خير فى خل يجىء تكلفا.