للأسف، لم يكن للأستاذ مهدى عاكف أى نصيب ولو ضئيلاً من العلم، سواء ما كان متصلاً بالعلوم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أو حتى العلوم الشرعية، الأمر الذى كان يضعنا فى حرج شديد أمام الآخرين، خاصة إذا كان الرجل يتكلم بشكل مرتجل فى مؤتمر جماهيرى، أو مؤتمر صحفى، أو حتى فى الجلسات الضيقة والمحدودة التى كانت تجمعنا ببعض المفكرين والمثقفين، وفى المرات التى كان يظهر فيها فى الفضائيات؛ كنت أقول فى نفسى: يا رب سلم، وكثيراً ما كان يقال إن الأستاذ «عاكف» يثير بتصريحاته وحواراته حرائق ونيراناً، ويأتى نائبه الأول ليتولى إطفاءها(!) لذلك، كان أفضل وضع له ولنا وللجماعة هو أن يقتصر حضوره على المناسبات الاجتماعية المختلفة، كالأفراح والجنائز، وغيرها، وأن يُجنب أى مداخلة فى مناقشة أو حوار، ربما كانت قراءاته مقتصرة فقط على الصحف والتقارير التى كانت تصله من الإخوان، ولم ألحظ يوماً أنه قرأ كتاباً لمفكر أو مثقف، محلى أو عالمى، كما لم يحدث أن ناقش قضية؛ فكرية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وكانت أفكاره وأطروحاته دائماً نمطية أو تقليدية، وقد انعكس ذلك على سير ومسار الجماعة، فلم يحدث فى عهده أى تطور، أو تبنى خطوة تجديدية، سواء فى الفكر أو حتى فى البناء التنظيمى للجماعة، وعلى الرغم من تاريخه الطويل فى الإخوان، فإنه لم يكن صاحب رؤية استراتيجية أو سياسية، ولم يكن لديه إلمام بالتخطيط أو الإدارة، فضلاً عن أنه كان يفتقر إلى العمق فى التحليل، أو الرصانة فى التناول، حقاً ما قاله الإمام على (رضى الله عنه): «المرء مخبوء تحت لسانه»، فما إن يتكلم الأستاذ «عاكف» حتى تكتشف بسهولة عدم وجود أى مضمون أو محتوى له قيمة تتلاءم مع مكانة ومنزلة مرشد عام للإخوان، وقد انعكست محدودية ثقافته على ضعف حجته وهشاشة منطقه، وعدم قدرته على الإقناع، وهو ما جعله يهرب من الحوار والمناقشة لأفكار الآخرين، واللجوء دائماً للعنف اللفظى والهجوم على مخالفيه ومنتقديه.
فى الشهور الأولى لتولى الأستاذ «عاكف» منصب المرشد، أى فى يناير ٢٠٠٤، مارست الإدارة الأمريكية ضغوطاً على النظام الحاكم فى مصر ونظم الحكم فى الدول العربية بشأن الديمقراطية والمرأة وتوسيع الفرص الاقتصادية لمؤسسات المجتمع المدنى، وكان ذلك واضحاً من خلال مبادرة الشرق الأوسط الكبير، لذا، رأينا نظام حكم مبارك يسعى إلى مد الجسور بينه وبين الإخوان، وكان من الممكن انتهاز هذه الفرصة لإعادة ترتيب البيت من الداخل، والتقدم فى العمل السياسى برصانة وحكمة، إلا أن «عاكف» لم يستطع قراءة الواقع والمستقبل برشادة، كان همه أن يجرى، ويجر الجماعة وراءه، بغض النظر عن النتائج السلبية التى يمكن أن تترتب على ذلك، لقد تصور أن الميدان مفتوح أمامه، ولم يكن يدرى أن نظام حكم مبارك يريد تحركاً بشكل محسوب، أراد «عاكف» أن يقفز فى الهواء، مغتراً بتلك الجسور الممتدة، دون إدراك للفخاخ المنصوبة والمتربصة، ودون استعداد أو تهيئة للبنية الأساسية للإخوان، ثقافة وأخلاقاً وسلوكاً وحركة وتنظيماً. لقد تميز الأستاذ مهدى عاكف بمزاج عصبى حاد، جعله يفقد ثباته الانفعالى فى كثير من الأحيان، ففى خلال السنوات الست -من يناير ٢٠٠٤ حتى آخر ديسمبر ٢٠٠٩- وهى الفترة التى تولى فيها منصب المرشد خلفاً للأستاذ المأمون الهضيبى، لم يرأس الرجل مكتب الإرشاد أو هيئة المكتب إلا وكان صياحه وصخبه وضجيجه يصك أسماع الجالسين معه، ويتجاوز ذلك إلى خارج غرفة الاجتماع، حيث الموظفين والعاملين، بل إلى خارج الدار، حتى ليخيل إلىَّ أن المارين فى الشارع يسمعونه، كان الرجل فى كل مرة يشتبك مع أحد أو بعض أعضاء مكتب الإرشاد فى تلاسن حاد، وعلو صوت حتى لا تكاد تتبين الكلمات الصادرة من هذا الفريق أو ذاك، كان كثيراً ما يردد: أنا اللائحة، أنا المؤسسة، أنا، أنا، لم يكن لدى الرجل قدرة على الإنصات، فهو لا يعطى نفسه فرصة للفهم، أو للآخرين فرصة التعبير عما يجول فى نفوسهم، هو يتكلم طول الوقت الذى يمكثه فى الجلسة، التى لم تكن تزيد فى هيئة المكتب عن ١٥ أو ٢٠ دقيقة، وفى المكتب لم تكن تتجاوز ساعة، ثم يرفع الجلسة، لم يكن هناك نقاش أو حوار حقيقى، فالكل يتقى غضبه، وحدة لسانه، واعتداءاته اللفظية المتكررة، وتلويحاته بيديه فى وجوه الأعضاء، وطرقه الشديد بقبضة يده على المنضدة، ولولا موقع المرشدية الذى يمثله الرجل والذى له فى قلوب الإخوان المكانة والمنزلة، لألقوا به خارج القاعة (!) إذ لا يوجد إنسان يقبل على نفسه وكرامته أن يتحمل تلك الإهانات المتكررة من الرجل، وقد صرح لى بعضهم كثيراً بأنه يصاب بحالة من الاكتئاب والانقباض وهو مقبل لحضور جلسة مكتب الإرشاد أو هيئة المكتب، إن الرجل لا يقبل اعتراضاً، أو إبداء رأى يتعارض مع ما يراه، ناهيك عن النقد حتى وإن كان فى موضعه، ففى يوم كان إخوان أعضاء مكتب إدارى محافظة الغربية (وعلى رأسهم سيد النفاض) عندنا فى مكتب الإرشاد، وذلك عقب التصريحات الشهيرة التى أثارت الرأى العام («الطز»، و«الحذاء»)، وبدلاً من أن يتكلم القوم، قدموا ورقة له، رسالة مكتوبة، تحفظاً من أن يتكلم أحدهم بكلمة قد لا تروق للرجل، وعندما شرع «عاكف» فى قراءتها، بدت عليه علامات الرضا والارتياح، إذ كانت الديباجة مشجعة، فهى تتحدث عن المرشد ومكانته ومنزلته فى قلوب الإخوان، وأن كل كلمة يقولها لها فعل السحر فى نفوسهم، وهم يستقبلونها بكل التقدير والاحترام، وكيف لا وهو مرشدهم؟! ولأجل ذلك، وحفاظاً على هذه المكانة يرى القوم أنه لا بد من تحديد متحدث رسمى باسم الجماعة(!) عندما وصل «عاكف» إلى هذه العبارة وقعت الكارثة، أصاب الرجل مس من الجنون، فقد استشاط غضباً، وتغير وجهه، وبدت القسوة فى ملامحه، وألقى بالرسالة فى وجوههم بطريقة فظة وغليظة ومهينة، وخالية من الذوق واللياقة والأدب الذى عهده الإخوان فى مرشديهم، ولم يكتف بذلك، لكنه صاح قائلاً: أنا المتحدث الرسمى، أنا المتحدث الرسمى!! وأنا المرجعية، أنا المرجعية!! بقى أن أقول: إننا ظلمنا الرجل، فى المرة الأولى، ظلمناه باختياره مرشداً، وفى المرة الثانية، والثالثة، والأخيرة، ظلمناه بعدم إقالته مبكراً.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
«عاكف» لم يستطع قراءة الواقع والمستقبل برشادة كان همه أن يجرى ويجر الجماعة وراءه، بغض النظر عن النتائج السلبية التى يمكن أن تترتب على ذلك