بروفايل| "أمين بك".. الحب ينجيه من مذبحة القلعة

بروفايل| "أمين بك".. الحب ينجيه من مذبحة القلعة
الحب والقدر أنجياه من هلاك محقق، لم يُصدّق رؤى زوجته التي أزعجتها وطالبته بالبقاء إلى جوارها وترك موعده، ولأجل حبها جلس يتبادل أطراف الحديث معها وهي تمد في النقاش عله ينسى ما أهلّ نفسه إليه، وفي الساعة الأخيرة تذكر أنه أغفل زيارة الوالي وخشي من تبعات تأخيره وهَمَّ بالانصراف، فناصر القدر رغبة زوجته وعند وصوله وجد موكب رفاقه مغادرًا، وقف منتظرًا خارجًا ليعود معهم بعد أن فاته الاحتفال، فرأى المكيدة أمام عينيه تُصنع فهرب، ليذكر التاريخ "أمين بك"، الناجي الوحيد من مذبحة القلعة التي دبرها محمد علي للمماليك في 1 مارس 1811.
"أمين بك"، واحد ضمن أكثر من أربعمائة مملوك، أتوا بالملابس الرسمية مدعوين من قِبل السلطان لتناول القهوة في سراي القلعة، احتفالًا بخروج طوسون باشا ابن محمد علي باشا لمقاتلة الوهابيين في شبه جزيرة العرب، لم يلتفت لرجاء زوجته الأميرة "سلمى" التي هربت معه من لبنان، خشية أن يزوجها أبيها من ابن عمها الذي لا تطيق رؤيته، في الوقت الذي تعلق فيه بالفتى المملوكي الذي سكن بلادهم قليلًا مع ذويه، هربًا من بطش الفرنسيين بهم في مصر، مُتحملًا إهدار دمه ودمها بأمر من الأمير بشير حاكم لبنان، وطمس هويتها لتُعرف في بلد زوجها بعد عودته بـ"جميلة"، وأراحها قليلا في المكوث معها حتى لا تفزع كثيرا من رؤيتها، خشية أن يؤثر على جنينها الذي يستوطن أحشاءها أو ابنهم البكري الذي يلهو دون اكتراث، ومغادرته قبيل انتهاء الحفل، مودعها بقوله: "يا عزيزتي إن الأحلام أوهام لا يعبأ بها".
ركب جواده وقصد القلعة، فلما وصل إلى أحد أبوابها "باب العزب"، رأى الموكب قادمًا نحو ذلك الباب للخروج منه، فقال إن الأصوب أن يبقى خارجا حتى يخرج الموكب فيرافقه، فوقف بجواده منتظرا ثم رآهم يغلقون الباب بغتة، وأعقب ذلك إطلاق الرصاص داخل القلعة، فعلم أنها مكيدة لقتلهم، وحمله حب النجاة للفرار في الصحراء بدلا من السير إلى البيت لينقذ حبيبته، فوثب جواده من فوق ذلك التل وخر ميتًا، فأكمل طريقه سيرا حتى خرج من ضواحي القاهرة، وانتظر ليعلم النتيجة، فعلم أن دم المماليك أصبح مهدرًا حيثما كانوا، فأوغل في هذا البر حتى وصل إلى الصحراء، ولجأ إلى إحدى القبائل، كما روى حكايته الأديب جورجي زيدان في روايته "المملوك الشارد".
هرب "أمين بك" تاركًا زوجته وطفله الذي يحبو وآخر لا يعلم شأنه إلا الله، فما كان من "جميلة" إلا الهرب بطفليها برفقة الخادم "سعيد"، الذي أبى تركهم بعدما أهدر "محمد علي" دم المماليك وأباح لجنوده نساءهم، والتجأت بأمير لبنان دون أن تكشف عن هويتها الحقيقة خشية من حكمه السابق بإهدار دمها، وهي تفزع فراق "غريب" الذي وضعته في رحلتها خاصة بعدما تاه الابن الأكبر "سليم" وانقطعت أخباره، وذبح زوجها في القلعة مع رفاقه كما قيل لها.
خطَّ الشيب في مقتبل العمر بـ"أمين بك" الذي أضحى يُدعى "سليمان" في هيئته الجديدة بعد الهرب، تقلَبت به الليالي مشتاقًا إلى فرصة للعودة إلى القاهرة لمشاهدة أهله الذين لا يعلم عنهم شيئا، ليشاء القدر أن ينقذ فتى لا يعرفه من قُطاع الطريق بالصحراء، ويدل أهله عليه عند مجيئهم بحثًا عنه، ويجيئه أبيه ليشكره ولفطنة "بشير" حاكم لبنان يعلم أن مَن أنقذ ولده في صحراء مصر التي جاءوها زيارة ليس مصريًا ولا عربيًا، لكن لهجته مصرية تختلف عمن عاشرهم من البدو، فلم يتركه إلا بعد معرفة قصته دون أن يربطها بالطفل وأمه جميلة التي تشبه سلمى، خاصة أنها قالت إنها من صيدا وليست من قرية الأميرة، وبعد رواية ما قاساه قرر الأمير رفع حكم إهدار دمه عنه ثم توسط له لدى "محمد علي"، الذي أمر بالبحث عنه وقتله ليعفو عنه أيضًا ويتركه يبحث عن أهله، ولكنه لم يجدهم فآثر لنفسه الموت، وذهب مع قوات إسماعيل ابن السلطان إلى السودان حتى يدركه الموت هناك.
وكما أنقذه القدر من هلاك المذبحة نجاه من موت ذهب وراءه إلى السودان، ولشدة غرابة قصته انتقص الأمير من عهده وحكي رواية سليمان أمام جميلة التي فقدت الوعي عند سماعها القصة؛ لعلمها أن زوجها حيًا لكنها لم تستطع النطق وقتها، ولفطنة الأمير ربط بين قصتهما وعلم الحقيقة فأعطاها الأمان ورفع عنها حكم إهدار دمها وبعث بمن يبحث عنه، حتى عاد "أمين بك" وترك هوية "سليمان" بلا رجعة، وعادت زوجته "سلمى" ولم تعد بحاجة إلى "جميلة"، وأدرك غريب أن أبيه على قيد حياة وعلم بأن والده هو الناجي الوحيد من أكبر عملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديث؛ لرغبة الولاية العثمانية في التخلص من نفوذ المماليك الذين تجبروا على مدار 6 قرون من حكمهم، منذ مقتل شجر الدر وتولي عزالدين أيبك الحكم.