بروفايل| كوبري عباس.. الشاهد الباقي على الدماء

كتب: سلوى الزغبي

بروفايل| كوبري عباس.. الشاهد الباقي على الدماء

بروفايل| كوبري عباس.. الشاهد الباقي على الدماء

شمس يوم 9 فبراير 1946 انعكست من صدور مئات الطلاب من جامعة الملك فؤاد الأول "القاهرة حاليًا" المشتعلة، الغضب يكسو الوجوه، تشرأب رؤوسهم ناظرة لحرية مترقبة بعد جلاء الاحتلال المنتظر، عازمين على عبور الجسر الواصل بين محافظتي الجيزة والقاهرة، حيث يوجد في الأولى الجامعة والثانية قصر عابدين، فاجئتهم قوى الشرطة الماكثة بمرصاد الباطل بعد وصولهم إلى منتصف "كوبري عباس" قبل مترات من العبور إلى المكان المستهدف للتظاهر عنده، فأنهت حياة العشرات في رواية والمئات في رواية أخرى، لم تصل أعمارهم إلى عمر الجسر المبني منذ 38 عامًا، ومصادرة حرية آخرين خلف السجون، فيما عُرف بحادثة "كوبري عباس".

21 فبراير 1946، تاريخ سطّرته الحركة الطلابية بالجامعات المصرية، أعلنت فيه اللجنة العامة للعمال والطلاب الإضراب، للتعبير عن غضبها مما حدث على "كوبري عباس" الذي لم يشهد مجرد مطاردة بين الطلاب والبوليس أبطالها العصا والحجارة، وليس آخر مصادمة بين الطرفين، ولكن تاريخيته ناتجة من "دراميته" لشباب أرداوا الوقوف أمام أبواب قصر الحاكم، للمطالبة بجلاء الإنجليز وقطع المفاوضات.

واجهت الشرطة المظاهرة الطلابية بفتح الكوبري في أثناء مرور الطلاب عليه، بأمر من رئيس الوزراء ووزير الداخلية وقتها محمود فهمي النقراشي، والذي تعرّض للاغتيال فيما بعد على يد عضو بجماعة الإخوان، وأدى فتح الكوبري إلى تساقط الطلاب في نهر النيل، ولقي البعض منهم مصرعه غرقًا حسب العديد من الروايات، وعلَمت "الهروات" على أجساد باقي الطلبة فمنهم من مات، ومنهم من أُلقى القبض عليه ووجد نفسه بعد استيفاقه داخل قسم الجيزة.

وتحوّلت تلك الملحمة البطولية والمأساوية في الوقت ذاته التي شهدها كوبري عباس، إلى مشهد درامي صاغه الروائي إحسان عبدالقدوس، ولم يستغرق تنفيذه من المخرج "بركات" سوى تسع دقائق، لتجسّد أولى مشاهد فيلم "في بيتنا رجل" حدثًا ملحميًا يعود إلى التاسع من فبراير 1946، مُسطرًا بدماء طلاب جامعات مصر مكانًا في تاريخ الحركة الطلابية، وظل الحادث المعروف بـ"حادثة كوبري عباس" نقطة سوداء في تاريخ النقراشي، واستخدمه الوفد للنيل من وزارة النقراشي، التي قيل إنها صرفت لكل طالب مفرج عنها، حينها، 12 جنيهًا.

المشهد الدرامي ليس أول حادثًا داميًا يشهده الكوبري، فقبله بـ11 عامًا، كان الموعد مع نزيف طلاب مصر أيضًا، ففي 15 نوفمبر 1935، ارتدى طلاب جامعة القاهرة ثوب الشهداء قبل الخروج من منازلهم استعدادًا لمواجهة قاسية مع الموت، ليدرك عقلهم الفطن أن اللحظة الحاسمة قد أتت ليعلنوا رفضهم لدستور 1930 "العبودية" الذي أقرّه صدقي الباشا، والمناداة بالحق في الحرية الملغاة بدستور 1923.

جامعة القاهرة "منبر الحرية" تحتضن أولادها الحضن الأخير، قبل أن يتوجهوا بأعداد غفيرة إلى كوبري عباس ليكون وجهتهم للوصول لقصر عابدين، "الحرية" هي صوت الطلاب العزل المؤمنين بحقهم في وطنهم؛ ليقابلوا بصوت الطلقات النارية من مغتصب الوطن بكل "استهتار".

"عبدالحكم رفع العلم"، جملة يعتز بها كل مصري بالفطرة دون معرفة عبدالحكم الجراحي، طالب كلية الآداب الذي أسرع وأمسك بـ"علم مصر" قبل أن يصل للأرض، بعد أن استشهد زميله محمد عبدالمجيد، طالب كلية الزراعة برصاص الإنجليز، "كل خطوة هتكون برصاصة" عبارة قالها الضابط الإنجليزي بابتسامة استهتار محمية ببنادق الجبن لعبدالحكم ليتراجع عن موقفه وينسحب من ميدان المعركة الدائرة فوق كوبري عباس، فترتسم ابتسامة على وجه البطل واثقة من القضية، مشتاقة للجنة، للتحرك قدماه بـ13 خطوة و13 طلقة في صدر أبى أن يغلق قميصه على جرحه وجرح وطنه دون أن ينتفض معلنًا غضبه.

وللمرة الثانية، كأن البطل يأبى الموت دون أن يترك رسالة لوطنه وأصدقائه ومن يتبعه، يكتب عبدالحكم بدمه من غرفته المحاصرة بالجنود الإنجليز بقصر العيني، بعد انتزاع 8 رصاصات من صدره، ويغمس إصبعه في جرحه ليسجل على "حيطان" الغرفة البيضاء "إلى روح الشر.. رئيس وزراء إنجلترا، أنا الشهيد المصري عبدالحكم الجراحي، قتلني أحد جنودكم الأغبياء وأنا أدافع عن حرية وطني"، ويلتقي عبدالحكم بزميله في رحمة المولى.

قدر لمصر أن تودع مخلصيها بحفاوة الفخر، لتصبح جنازة الشهيد عبدالحكم أكبر جنازة في مصر، بعد أن عزم طلاب كلية الطب على المشاركة في تحية شهيد الوطن عبدالحكم، بتهريب جثته من الإنجليز، ويستشهد 4 من طلاب الطب ليتيحوا الفرصة لوطنهم بإلقاء نظرة الوداع على بطلها.


مواضيع متعلقة