«تاريخ غزة» يصارع «النسيان».. معركة حتى «الرمق الأخير» لإعادة البناء

«تاريخ غزة» يصارع «النسيان».. معركة حتى «الرمق الأخير» لإعادة البناء
ووفقاً لخبراء وتقارير دولية، فقد تعرَّض أكثر من ثلثى المواقع التراثية فى القطاع الفلسطينى للدمار أو للضرر البالغ، فى مأساة ترقى إلى «جريمة حرب» بحق الإنسانية والهوية والتاريخ، وفى ظل هذا الدمار يخوض سكان غزة معركة أخرى بعزم لا يلين، تعهدوا بخوضها حتى «الرمق الأخير»، ليس فقط من أجل البقاء، بل لاستعادة إرثهم الضائع، إنها ليست مجرد معركة من أجل الطوب والحجر، بل صراع ضد النسيان، وإصرار على أن تظل غزة، رغم كل شىء، نابضة بتاريخها وحضارتها التى تأبى أن تُدفن تحت الركام.
فى حى «الدرج»، بمدينة غزة، يقف الشاب الفلسطينى «حمودة الدهدار» وسط أنقاض متحف «قصر الباشا»، حيث كانت جدران المبنى، البالغ عمره أكثر من 800 عام، المصنوعة من الحجر الجيرى الذهبى، شاهقةً تعكس عمق تاريخ وتراث البلدة القديمة، وكانت قاعاته الباردة ذات القباب المميزة، تحتضن مئات القطع الأثرية التاريخية، يقول «الدهدار»، البالغ من العمر 40 عاماً، وهو مدير المتحف: «كان المتحف بمثابة جنة صغيرة على الأرض، الآن لا حياة هنا على الإطلاق، أى شخص يأتى إلى المكان يشعر بالحزن، يمكنهم فقط أن يتذكروا ما كان عليه فى السابق».
وبحسب تقرير لصحيفة «الجارديان» البريطانية، فإن متحف «قصر الباشا»، الذى كان قصراً وحصناً خلال الحكم المملوكى والعثمانى لقطاع غزة، فى ذلك الشريط الساحلى جنوب شرق البحر المتوسط، والذى أقام فيه نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية على مصر والشام فى أواخر القرن الـ28، عدة أيام، تحول إلى مجرد كومة من الركام، نتيجة القصف الإسرائيلى على مدينة غزة، ولم تترك الحرب إلا أجزاء فقط من الجدران لتبقى شاهدة على جرائم الاحتلال، بينما اختفت كل المقتنيات التاريخية من المتحف.
بالنسبة لـ«الدهدار»، فإن الخسارة كانت شخصية أيضاً، حيث رفض مغادرة منزله فى البلدة القديمة والانضمام إلى مئات الآلاف الذين فروا إلى جنوب غزة عند اندلاع الحرب، وفى ديسمبر 2023 كان يقيم مع زوجته وبناته الثلاث بالقرب من المتحف، عندما وقع انفجار ضخم، وبينما كان يغالب دموعه، تحدّث بنبرة حزينة قائلاً: «تم إخراج جميع أفراد العائلة من تحت الأنقاض مصابين، باستثناء ابنتى ميرفت، البالغة من العمر 12 عاماً، التى تم انتشالها جثة هامدة، رحمها الله».
يُعد متحف «قصر الباشا» واحداً من عشرات المواقع التراثية الكبرى التى دُمرت تماماً أو تضررت بشدة، نتيجة حرب الإبادة الجماعية التى شنها الاحتلال الإسرائيلى على قطاع غزة، والتى استمرت لما يقرب من 15 شهراً، طالت البشر والحجر، وأسفرت عن استشهاد ما يقرب من 50 ألف فلسطينى، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى تدمير مرافق البنية التحتية، من مدارس ومستشفيات ومحطات الكهرباء والمياه، وإزالة أحياء سكنية كاملة، قبل دخول اتفاق «هش» لوقف إطلاق النار حيز التنفيذ فى يناير 2025، وهو الاتفاق الذى لم يستمر طويلاً، حيث استأنفت آلة الحرب الإسرائيلية القتل وتخريب ما تبقى من قطاع غزة.
ونقلت «الجارديان» عن خبراء فلسطينيين، يعملون مع علماء آثار بريطانيين، أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من ثلثى المواقع التراثية والثقافية والأثرية فى غزة قد تعرضت للضرر بشكل بالغ، وقد جرى استهداف العديد من هذه المواقع من قبَل قوات الاحتلال الإسرائيلى بشكل مباشر، مما يشكل «جريمة حرب» مكتملة الأركان، بينما سعى مسئولون فى الحكومة اليمينية المتطرفة، التى يقودها بنيامين نتنياهو، إلى تبرير قصف المعالم الثقافية والتراثية فى غزة، بادعاء أن هذه المواقع كان يتم استخدامها من قبَل عناصر فى حركة «حماس» لأغراض عسكرية، ونفى المسئولون الإسرائيليون أن يكون قد تم استهداف هذه المواقع بشكل متعمد.
على مقربة من «قصر الباشا»، وفى حى «الزيتون»، ضمن البلدة القديمة أيضاً، يقع «حمام السمرة»، وهو حمام شعبى يزيد عمره على 1000 عام، وكان من بين أهم المعالم الأثرية فى غزة، اضطر صاحبه «سليم الوزير»، البالغ من العمر 74 عاماً، إلى النزوح مع أسرته إلى جنوب غزة، حيث كانوا يعيشون فى خيام طوال فترة الحرب، قبل أن يبدأ رحلة العودة، بعد الإعلان عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى يناير الماضى.
لم يكن «الوزير» يعلم أن الحمام، الذى حافظت عائلته عليه على مدار قرون، جيلاً بعد جيل، قد أصبح كومة من الأنقاض إلا بعد عودته إلى البلدة القديمة مرة أخرى، وتحدّث عن تلك اللحظة قائلاً: «فى اليوم الأول الذى سُمح لنا فيه بالعودة إلى شمال غزة لم أذهب إلى منزلى، بل جئت أولاً لتفقد الحمام»، وأكد أنه أصيب بصدمة شديدة عندما شاهد الحمام الذى يعكس تاريخ عائلته قد تم تدميره بالكامل.
وبحسب المتحدث باسم مدينة غزة، حسنى مهنا، فإن «حمام السمرة»، كان يُعد ثانى أكبر المعالم الأثرية فى البلدة القديمة بعد «الجامع العمرى»، وأحد أهم المعالم المعمارية العثمانية فى فلسطين، ويُعتبر أحد النماذج المذهلة للحمامات العثمانية، ووصف المسئول الفلسطينى تدمير ذلك الحمام الأثرى بأنه «تعدٍّ سافر على تاريخ غزة وتراثها»، مشيراً إلى أن الاحتلال الإسرائيلى أقدم على تدمير المعالم التراثية والتاريخية فى غزة، فى محاولة لطمس هوية المدينة، ومنها «مركز رشاد الشوا الثقافى، وأرشيف بلدية غزة، والمكتبة العامة»، داعياً منظمة «اليونيسكو» إلى السعى لمحاسبة الاحتلال على جرائمه بحق مواقع التراث الفلسطينى فى غزة.
ووفقاً لتقرير حديث، أعده فريق خبراء فلسطينيين فى ترميم الآثار بالضفة الغربية المحتلة، بالاشتراك مع علماء آثار بريطانيين، فإن مجرد حماية المواقع التاريخية فى غزة من التعرض لمزيد من الضرر، فى حال استمرار وقف إطلاق النار، سيكلف نحو 33 مليون دولار، وقد يستغرق حتى 18 شهراً، أما إعادة الإعمار الكاملة فقد تتطلب ما يقرب من عشرة أضعاف هذا المبلغ، ومع ذلك فقد كشفت الصحيفة البريطانية، فى تقريرها، أن المواقع التاريخية لم تحظَ بالاهتمام المطلوب فى معظم الخطط المقترحة لإعادة إعمار غزة، بما فيها خطة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، التى يدعو فيها إلى تسوية المنطقة بالكامل، لإنشاء مشروعه الخيالى، الذى يطلق عليه اسم «ريفيرا الشرق الأوسط».
ويتطلع العديد من سكان مدينة غزة إلى مستقبل مختلف، حتى بالنسبة للمبانى التاريخية التى تعرضت لأضرار جسيمة، داعين إلى حمايتها وإعادة بنائها، منهم «سليم الوزير»، الذى أكد أنه على استعداد لأن يقضى ما تبقى من عمره فى إعادة بناء «حمام السمرة»، وقال: «إذا لم يتولَّ أحد هذه المهمة فسأقضى بقية حياتى فى إعادة بناء الحمام بنفسى، أعتقد أننا نستطيع إعادة بنائه تماماً كما كان، باستخدام نفس الأحجار والتصميم، بهذه الطريقة يمكننا استعادة روحه الأصلية».
ويرى العديد من السكان أن «الجامع العمرى الكبير»، أقدم وأكبر مسجد فى القطاع، يُشكل أعظم خسارة محتملة، وتحدَّث «طارق هنية»، البالغ من العمر 60 عاماً، الذى كان يعمل مرشداً سياحياً، قائلاً إنه «رغم أن المنبر الخشبى الشهير، الذى يعود للعصر المملوكى، نجا من الحرب دون أضرار تُذكر، إلا أن معظم سقف الجامع قد تهدَّم، وأصبحت جدرانه فى حالة خراب، كما أن مئذنة الجامع مدمرة جزئياً»، إلا أن «هنية» استكمل قائلاً: «سيتم ترميمه بالتأكيد، نحن نعمل على ذلك بالفعل»، قبل أن يختتم حديثه بالقول: «هناك فريق يجمع الأحجار المكسورة، لإعادة بناء الجامع فى أسرع وقت ممكن، صحيح أن الجامع القديم كان يحمل تاريخاً لا يُقدر بثمن داخل جدرانه، لكننا سنعيد بناءه، رغم كل شىء».