إسرائيل تقع في فخ انتقامها
أثار اعتراف الدول الأوروبية الثلاث إسبانيا والنرويج وأيرلندا بفلسطين دولة مستقلة تستحق العضوية الكاملة فى الأمم المتحدة غضب إسرائيل ومسارعتها فى اتخاذ إجراءات مضادة لهذا الاعتراف، خاصة فى ضوء وقوع حكومة الاحتلال الإسرائيلى تحت ضغط كبير عقب طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية استصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، واصفة القرار بأنه «وصمة عار تاريخية»، وفى مساعٍ لإحراز خطوات استباقية بنية إسقاط هذه الملاحقة اتخذت حكومة الاحتلال عدة خطوات، منها «عقد غرفة حرب وتنفيذ اتصالات دبلوماسية، وإرسال وفد إلى لاهاى وجمع توقيعات».
من بين الإجراءات الإسرائيلية المضادة للاعتراف الدولى بفلسطين، برزت فى المقدمة الإجراءات العقابية التى اتخذتها حكومة نتنياهو ضد السلطة الفلسطينية لسببين معلنين، أولهما: أن السلطة الفلسطينية هى التى أثارت الدعوى القضائية ضد إسرائيل فى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية بشكل ممنهج ومتكرر، وثانيهما: لتهديد الدول التى تدرس الاعتراف بالدولة الفلسطينية بأن هذه الخطوة ستكون لها نتائج معاكسة كلياً، بمعنى أن أى تقدم أوروبى باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيؤدى حتماً إلى انهيار ما تبقَّى للسلطة الفلسطينية من هامش سيادى على جزء من أراضى الضفة الغربية.
لقد بدأت سلسلة الإجراءات الإسرائيلية العقابية منذ عام 2019 عندما قررت الحكومة الإسرائيلية أنها سوف تحجب الأموال التى تخصصها السلطة الفلسطينية فى موازنتها للأسرى وعائلات الشهداء، ومع الهجوم الكبير فى السابع من أكتوبر العام الماضى، وما أدى إليه من تفاقم نزعة الانتقام الوحشى من غزة ومقاومتها وسكانها بشكل عام، اتخذت إسرائيل إجراء فورياً باقتطاع نحو 45% من حصيلة الضرائب، وهى النسبة المخصصة لموظفى السلطة الفلسطينية فى قطاع غزة عاملين ومتقاعدين على حد سواء، فضلاً عن الإعانات الشهرية للأسر الفقيرة، وقد اضطرت السلطة الفلسطينية إلى توزيع المبلغ المخصص للضفة الغربية على احتياجات الضفة وغزة معاً، ما أدى إلى إنقاص الرواتب بنسبة لا تقل عن 40% وهذا بدوره فاقم المصاعب الاقتصادية والمالية التى يعيشها الفلسطينيون فى الضفة وغزة وأنتج مشكلات معقدة يعجز حتى النظام القضائى عن حلها، ومنها على سبيل المثال عجز الكثير من الموظفين عن دفع إيجارات منازلهم أو أقساط تعليم أبنائهم أو أقساط القروض إلى البنوك، أو تكاليف انتقالهم اليومى من المحافظات المختلفة إلى مقرات أعمالهم فى الوزارات والمؤسسات برام الله.
هذا فضلاً عن تدهور القدرة الشرائية والانخفاض الحاد فى حركة السوق والانهيار الجزئى لأسعار الشقق والمنازل بسبب الضعف الشديد على طلبها.فى اللحظة الراهنة بدأت الحكومة الإسرائيلية باتخاذ إجراءات أكثر قسوة ضد السلطة الفلسطينية، فهى قد امتنعت عن تحويل أى فلس من عائدات الضرائب الفلسطينية إلى السلطة رداً على مذكرات التوقيف التى طلبها المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، وعلى اعتراف دول أوروبية مثل النرويج وإسبانيا وأيرلندا بدولة فلسطين ومطالبتها المجتمع الدولى بقبول فلسطين عضواً كاملاً فى الأمم المتحدة، وعليه فقد اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً واضحاً بتوجيه العقاب إلى السلطة الفلسطينية بحجة أنها السبب الرئيسى فى تحرك الجنائية الدولية، وبهدف إرغام الأوروبيين على التفكير ملياً قبل الشروع بإجراء من هذا النوع.
تحاول الحكومة الإسرائيلية الاستنجاد بالإدارة الأمريكية وحلفائها التقليدين فى أوروبا لمنع أو إبطاء التدهور المرتقب فى مكانة إسرائيل والتعاطف المتزايد مع الشعب الفلسطينى بهدف منع هذا التعاطف من التحول إلى قوة سياسية ضاغطة ضد إسرائيل فى كل المحافل والأوساط الشعبية الدولية.
وبالمقابل فإن السلطة الفلسطينية تعيش الآن أسوأ أيامها، فهى من الناحية السياسية لا تملك أى أوراق تسمح لها بالمشاركة فى الصراع المحتدم منذ السابع من أكتوبر، ومن الناحية الجماهيرية فقد فقدت السلطة الفلسطينية ما تبقى لها من قبول وتأييد لدى الجمهور الفلسطينى، خاصة فى المحافظات الشمالية مثل نابلس وطول كرم وجنين وقلقيلية وطوباس وريف رام الله ومدينة الخليل.
أما من الناحية المالية فإن القرار الإسرائيلى بالامتناع عن توريد عائدات الضرائب إلى السلطة سيعنى حتماً الإفلاس والتفكك والانهيار الذى تبدو ملامحه الآن واضحة من خلال امتناع غالبية الموظفين وعناصر الأجهزة الأمنية عن الدوام فى المؤسسات والأجهزة التى يعملون فيها، ومن سوء الحظ فإن مطالبات الرئيس عباس بتوفير شبكة أمان مالية عربية للسلطة الفلسطينية لم تجد صدى ولم تتلقَّ السلطة أى دعم عربى يساعدها على اجتياز هذا المنعطف الخطر.
إن الخيارات أمام السلطة باتت تضيق شيئاً فشيئاً، فقد حاولت فى البداية توظيف علاقتها بالإدارة الأمريكية للضغط على إسرائيل للإفراج عن أموالها المحتجزة، كما حاولت استثمار علاقاتها الأوروبية أيضاً للغاية نفسها، غير أن أياً من هذا لم يُجدِ نفعاً.
ولعل الرئيس أبومازن كان يقصد بتعيين السيد محمد مصطفى، رئيس صندوق الاستثمار الفلسطينى، رئيساً للوزراء أن يطمئن الدول المانحة الشقيقة والصديقة على حد سواء بأن الدعم المقدم للسلطة الفلسطينية يخضع لمعايير صارمة من حيث الحوكمة والرقابة والشفافية فى إنفاق تلك الأموال، ما قد يشجع تلك الدول على دعم السلطة الفلسطينية بهدف تجاوز الإجراءات العقابية الإسرائيلية والحفاظ على آليات عمل السلطة فى هذه الظروف، لكن هذا أيضاً يبدو وكأنه حلم بعيد المنال.
من الواضح أن الولايات المتحدة لن تقدم ولن تسمح بتقديم ذلك الدعم المطلوب للسلطة إلا بشروط محددة تحت عنوان مخادع هو إصلاح السلطة الفلسطينية، والمقصود بالإصلاح هنا أن تغادر السلطة موقع الحياد فى الصراع بين الاحتلال والمقاومة، وأن تنحاز بشكل واضح إلى الاحتلال، وهو أمر لا يستطيع الرئيس عباس قبوله، ولن يستطيع أى رئيس فلسطينى آخر التساوق معه، لأسباب متعلقة بالتاريخ وبالاقتناع والضغط الشعبى، ما يعنى أن أزمة الضفة أصبحت مرتبطة عضوياً بالحرب فى غزة، وإن نجحت غزة فى صد العدوان الإسرائيلى وإرغام إسرائيل على القبول بالهزيمة، فستكون تلك نجاة للسلطة الفلسطينية، ولا بأس هنا أن نتجاهل العكس لأنه بات اتفاقاً جماعياً بين كل الخبراء والمحللين، سواء فى إسرائيل أو أوروبا أو الولايات المتحدة، أن إسرائيل لن تنتصر فى هذه الحرب.