ذات يوم كنتُ من كُتّاب «الوطن» وكنتُ هذه من أفعال الماضى، ومع ذلك فإننى لا زلتُ من كتاب الوطن، و«لا زلتُ» هذه من أفعال الحاضر! أما عن الوطن الأولى فهى جريدة «الوطن» الغرّاء التى كنتُ من أوائل الكُتّاب فيها، أما عن الوطن التى لا زلت أكتب لها فهى وطننا المصرى الذى يحتوينا جميعاً، وأكتب فيها غير أكتب لها، ولكن الصورة فى الحقيقة يجب أن تتداخل، فـ«الوطن» الجريدة صدرت من أجل أن تكون للوطن المصرى، ومن أجل أن تكون منبراً من المنابر التى تدافع عن مصر ضد الإرهاب والفساد والجهل، وأشهد أن رئاسة تحريرها سمحت لى بأعلى درجات الحرية فى الكتابة، فقد كنتُ كاتباً بلا سقف.
وفى تلك الجريدة تعرّفت على جيل جديد من الصحفيين الذين عشقوا مصر وتفانوا فى حبها، فلن أنسى الكاتب الكبير والصديق الراحل محمود الكردوسى رحمه الله، صاحب القلم الجرىء، ولن أنسى الصحفى المبدع مجدى الجلاد، وخبطاته الصحفية المثيرة، ولن أنسى الكاتب الصحفى الكبير محمود مسلم صاحب القلم الأنيق، والذى يفكر دائماً خارج الصندوق، فأنتج لنا صحيفة مختلفة وكأنها جمهورية مستقلة للصحافة، ولا يمكن أن أنسى الكاتب المثقف الخبير المقاتل أحمد الخطيب، ويا لحظنا المنكود عندما فقدنا أحد كتّاب «الوطن» الكبار وهو الصديق حازم منير، عليه رحمة الله.
وأظن أن فكرة المؤسسين لجريدة «الوطن» كانت تقوم على نمط جديد من الصحافة السياسية والاجتماعية والفكرية، صحافة تسير فى معالجتها للشأن العام بالتوازن والجدية والتدقيق، فلم تكن صحيفة تسعى إلى تثوير الناس، فيهدمون وطنهم عن جهالة، ولا هى صحيفة تأخذنا إلى ماضى أمتنا، لنجلس معاً نتحسر عليه، ولكنها كانت تدرك الحاضر بمؤامراته وتقلباته ومعاركه، لذلك كانت تعمل على إعادة بناء وعى المواطن ابن الوطن على أسس الانتماء والإيمان، وفى سبيل ذلك خاضت جريدة «الوطن» معارك دامية، حيث حاصر الإرهابيون الجريدة أكثر من مرة، أضرموا النيران فى مبنى الجريدة مرتين، وأمطروها بالحجارة مرات ومرات، مع حصار طالت أيامه، لم يتوقف الأمر على ذلك، بل قاموا بالاعتداء البدنى على عدد من الصحفيين والمصورين أثناء تغطيتهم بعض الأحداث، جريدة «الوطن» هنا لم تقدم كلمة من أجل الوطن، ولا كلمة من أجل الحقيقة، ولكنها كانت رأس حربة فى مواجهة الإخوان.
ومن أجل أن نعرف ونفهم، كان السبق الصحفى الكبير الذى انفردت به جريدة «الوطن» عندما أجرت حواراً مع الرئيس الراحل مبارك أثناء حبسه، هذا الحوار الذى عجزت عن مثله أكبر الصحف العالمية، يومها عندما عرفتُ أن هناك حواراً سيتم نشره فى الجريدة مع «مبارك» ذهبت لبائع الصحف فوجدت أن الجريدة بالحجز، فالناس كانت تقف طوابير من أجل أن تحصل على الجريدة، ويا له من يوم اضطرت فيه الجريدة إلى أن تُصدر عدداً من الطبعات لم يحدث فى أى جريدة من قبل، ومع هذا وذاك أضافت «الوطن» لنفسها رسالة إيمانية قائمة على أسس راسخة من العلم والمعرفة، فقد وقفت وما زالت ضد ممارسات الإخوان وسطوتهم واستبدادهم، فتحت «الوطن» النوافذ ليرى العالم كله جماعة الإخوان على حقيقتها، ورغم ذلك فإن «الوطن» حافظت على الخط الفاصل بين النقد والسب، الرأى والقذف.
وكان أكبر ما ميّز «الوطن» أنها جمعت فى صفحاتها مجموعة من الرموز الفكرية المصرية، كان على القمة عمّنا الدكتور الراحل السيد ياسين، حيث فتحت له صفحاتها وأجرت معه حوارات، وقدّمت نخبة من كبار الكتاب، منهم الأديب يوسف القعيد، والدكتور خالد منتصر، والدكتور محمود خليل، وغيرهم كثير من الشباب والكبار، وما أعظم أن تقدّم لنا «الوطن» كاتبات من طراز رفيع، مثل الكاتبة سحر الجعارة.
ما سبق لم يكن مدحاً فى غير محله، ولكنه كان تصويراً للحقيقة من عين مُحب، ولكن كان لا بد من النقص، فالنقص سمة البشر، ولكن هل من المناسب أن نتحدّث عن النقص والعيوب ونحن نحتفل مع «الوطن» بعيد ميلادها، أظنها ستكون جليطة وقلة ذوق، الآن ونحن نوقد الشمع على تورتة الاحتفال، لا يسعنا إلا أن نقول لها «هابى بيرثداى تو يو».