إرادته «يُضرب بها المثل».. رحلة كيلاني من المكواة إلى المعجم التاريخي للغة العربية

إرادته «يُضرب بها المثل».. رحلة كيلاني من المكواة إلى المعجم التاريخي للغة العربية
- معجم اللغة العربية
- المعجم التاريخي للغة العربية
- محو الأمية
- قصة نجاح
- جامعة الفيوم
- معجم اللغة العربية
- المعجم التاريخي للغة العربية
- محو الأمية
- قصة نجاح
- جامعة الفيوم
أخذ الحياة على محمل الجد، ولم يرها إلا معركة، ميدان نزله بإرادته كاملة، رأى الفرق بينه وبين أقرانه لكنه لم يهتم به، وأيقن أن هذا الفرق في صالحه وليس ضده، رفض أهله التحاقه بالتعليم خوفًا عليه من نظرات وسهام أقرانه، حيث إنه منذ ذوي الهمم، وعاش سنوات بلا أي شهادة تعليمية، حتى قرر تغيير مصيره فلازم إخوته في مذاكرتهم حتى عرف القراءة والكتابة منهم، لكنه لم يلتحق بصفوف محو الأمية بشكل نظامي إلا وعمره 20 عاما.
وضع العلم نصب عينيه وأعلى رأسه، وحمل همه بين جنباته، فظل ثلاثين سنة بعد دخوله أول فصل تعليمي في حياته كطالب بمحو الأمية يسير بين الفصول والقاعات حتى حصل على الدكتوراه، وطُلب في مهمة كبيرة وهي العمل ضمن فريق توثيق المجمع التاريخي للغة العربية، ليوثق اسمه بأحرف من نور، بعد رحلة من الكفاح والعزيمة أبهرت كل من يعرفها وشاهدها.
إعاقته تسببت في حرمانه من التعليم
تلك هي قصة محمد كيلاني ابن محافظة الفيوم وصاحب الـ51 عاما، وُلد لأسرة بسيطة مكونة من 8 أفراد، كان ترتيبه الثالث، ووالده كان يعمل «مكوجي»، في عمر العام ونصف أصيب بمرض شلل الأطفال، لتقرر أسرته حرمانه من التعليم لأسباب كثيرة من بينها الخوف عليه من التنمر الذي يمكن أن يتعرض له، «كمان كانوا بيفكروا أن ازاي هروح المدرسة وأطلع السلالم وأدخل وأخرج من الفصل وشافوا إن في ده مشقة فقرروا أنهم يريحوني من التعب ده، وده كان تفكير غلط».
سنوات قضاها ابن الفيوم داخل منزله، حتى اشتد ساعده وخرج بكرسيه المتحرك يواجه الحياة منفردا، فعمل بمهن عدة بدأت بمحاولته معاونة والده في مهنة كي الملابس، لكنه لم يحبها، فأخذ ينتقل من مهنة لأخرى، وعقله معلق بالعلم يتمنى بأن يحظى بفرصة التعلم، انتقل من كي الملابس للعمل في تفصيل الملابس لكنه لم يجد نفسه فيها، فعمل في محل بقالة، وبعدها بائعا للب والتسالي بأحد المحال، «دي كانت حياتي، والظروف الطبيعية لأي حد في سني وظروفي ومش معاه شهادة».
بداية التعلم بالتلقين من أشقائه
في نهاية اليوم تجتمع الأسرة في المنزل، يتابع «محمد» أشقاءه بعينين واهنتين، متمنيًا أن يذاكر معهما، إلا أن الظروف تمنع ذلك، يستجمع ما بقي من تركيزه المنهك من العمل طوال اليوم، يحاول ترديد ما يقولونه، ويربط خيوطا تبقت من تركيز اليوم الطويل، يجري وراء عملية حسابية بسيطة أو يردد حروفا ويربط بينها مكونا كلمات أكثر بساطة، حتى أتقن القراءة والكتابة.
يعمل صباحًا وينفق ما جمعه بسعادة في شراء الجرائد والكتب ليتمكن من الإبحار في عالم القراءة، وشغفه في التعلم لم يقف عند هذا الحد وفكر في الاستفادة من عمل شقيقته كمعلمة واستعارة الكتب من مكتبة مدرستها والقراء لنجيب محفوظ والعقاد، ثم يحاول محاكاتهم بكتابة الروايات والقصص والشعر وأضحى يشارك في المنتدى الثقافي لمدينة الفيوم، باحثا عن أي وسيلة لتثقيف نفسه.
الحصول على شهادة محو الأمية
في سن العشرين، حصل «محمد» على شهادة في التأهيل المهني بتخصص نسج السجاد، وعُيِّن عاملًا بخدمات بمديرية الطب البيطري في الفيوم عام 1993، لكن إعاقته كانت تمنعه من أداء بعض مهام تلك الوظيفة، ليقرر مديروه استثمار تعلمه القراءة والكتابة بالعمل في الأرشيف، «اكتشفت بعد ما اشتغلت إني أقل درجة وظيفية في البلد كلها، إني أقل واحد في السلم الوظيفي، الموضوع ده تعبني نفسيا ولفترة طويلة، لحد ما قررت أتعلم»، فالتحق بفصول محو الأمية وحصل على شهادتها.
الاستمرار في الدراسة والوصول إلى الدكتوراه
بعد شهادة محو الأمية، قرر استكمال مسيرته في التعليم، فنال الشهادة الابتدائية ثم الإعدادية، وكان الأول على مستوى طلاب المنازل في محافظة الفيوم، وقرر الالتحاق بالثانوية العامة بدلًا من الدبلوم، الشعبة الأدبية «دخلت أدبي عشان أقدر أدخل كلية من المتاحين لذوي الإعاقة، والحمد لله نجحت في الثانوية العامة» والتحق بكلية دار العلوم، ليبدأ مسيرته الجامعية جنبا إلى جنب مع حياته العملية يتدرج في السلم الوظيفي الحكومي.
حياة الرجل الخمسيني في تلك الفترة كانت منقسمة ما بين الجامعة والعمل فقط، ترك كل شيء الزواج، الأصدقاء، الراحة من أجل تحقيق حلم الحصول على شهادة جامعية، «كان كل همي هو إني أركز لحد ما أوصل للشهادة الجامعية وبس، وخدمتني الظروف إني في فترة الدراسة اتنقل تعييني الحكومي لموظف إداري في الجامعة»، حصل على بكالوريوس دار العلوم عام 2003، ليقرر أن يستزيد ويرتقي في درجات العلم، فالتحق بالدراسات العليا عام 2004 في تخصص النحو والصرف.
سجَّل رسالة ماجستير في موضوع «منهج النحاة في الاستدلال بالحديث النبوي الشريف بين النظرية والتطبيق»، عام 2005، ونال درجة الماجستير بتقدير امتياز عام 2009، «بعدها قررت أشوف حياتي، تزوجت وخلفت وانشغلت شوية بالأولاد وده أخرني شوية عن الدكتوراه، حتى قرر استكمال مسيرته التعليمية بالحصول على الدكتوراه.
يحكي كيلاني مشواره مع رسالة الدكتوراه، قائلاً: «تقدمت للحصول عليها في عام 2018، وكان عنوان رسالتي (مسائل سيبويه النحوية في كتب تفسير الأندلسيين.. توفيق ودراسة)، وأخدت مني مجهود كبير في البحث عن المخطوطات والدراسات السابقة».
المساهمة في توثيق المعجم التاريخي للغة العربية
بعد حصول كيلاني على شهادة الدكتوراه، انقسم عمله ما بين الوظيفة الإدارية وهي أخصائي شؤون تعليم باعتباره من الكادر الإداري وليس الأكاديمي، وتصحيح الأخطاء اللغوية والنحوية في الكتب والمؤلفات المترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، حتى أتيحت له الفرصة التي يعتز ويفخر بها، «ترشحت للعمل في كتابة المعجم التاريخي للغة العربية، وفخور أني جزء من هذا العمل والفريق».
اختياره في معجم اللغة العربية التاريخي التابع لاتحاد المجامع العربية، جاء بترشيح من مجمع اللغة العربية في مصر، وهو المعجم الذي يشارك في إعداده مجموعة من علماء لغة من خمس دول عربية على رأسها مصر والسعودية والإمارات، «شغال ضمن فريق كبير مكون من أكثر من 500 عالم في النحو على مستوى العالم العربي، وده اللي بيسعدني في مسيرتي وبعتبره إنجاز تاريخي».