«ساكنة بك».. منحها الخديو إسماعيل «البكوية» ومنزلها في طيّ النسيان

«ساكنة بك».. منحها الخديو إسماعيل «البكوية» ومنزلها في طيّ النسيان
قبل عشرات السنين كان المشهد فى حى الخليفة مختلفاً، فهنا سكنت أول وآخر امرأة حملت لقب البكوية «ساكنة بك» فى المنزل الذى أهداه إليها الخديو إسماعيل، فهى مطربته المفضلة، فإليها أتى بموكبه المهيب، مستمعاً لصوتها العذب الذى أطرب أذنيه وقلبه، مرت السنوات وتبدلت الأحوال، وصار المنزل مهجوراً تظنه آيلاً للسقوط، حتى نوافذه باتت مهشمة تمكنك بالكاد من رؤية ما أصابه من خراب، ولا شىء يدلك عليه سوى لافتة حملت اسمه ضمن مشروع «هنا عاش» والروايات المتوارثة بين أهالى الحى.
بقايا لوحات دعائية متراكمة على جدران المنزل المهجور، وأشجار ألقت بظلالها عليه، ورغم الحال المؤسف الذى آل إليه المنزل، ما زال حسين ميمى محتفظاً بمقعده أمام محل الموبيليا الذى ورثه عن والده وافتتحه قبل سنوات أسفل منزل «الست ساكنة»، متذكراً قليلاً من المعلومات التى طالما سمعها من والده.
فى صباح كل يوم يجلس الرجل الستينى داخل محله رغم قلة الزبائن، يأنس بمن حوله من أصحاب الدكاكين وجيرانه يتفاخرون بحكاياتهم عن الشارع الذى زاره الخديو إسماعيل للاستماع لصوت «الست ساكنة»: «كنا نسمع أنها مطربة الخديو، جاب لها البيت ده وفضلت عايشة فيه مع فرقتها، وفى آخر أيامها عملته دار تحفيظ القرآن».
حكايات المنزل ما زالت عالقة فى ذهن الرجل الستينى، متذكراً زيارة الفنانة سهير المرشدى للمنزل، بعدما رُشحت لتجسيد دور «ساكنة بك» فى مسلسل «بوابة الحلوانى»، فى محاولة منها للتقرب إلى ملامح شخصية مطربة الخديو.
مرات قليلة تسلل فيها «حسين» داخل المنزل بعدما صار مهجوراً من سكانه، متذكراً مساحته الشاسعة وزخرفة السقف بالقاعة الرئيسية الخاصة بالحفلات الغنائية، لكن الحال أن المنزل فى وضع سيئ، وترددت حوله الأقاويل ما بين خضوعه لعملية الترميم، المتزامنة مع ما يحدث فى شارع الأشراف الذى تفصله عنه خطوات قليلة، وبين بيعه لأحد المستثمرين: «أياً كان مصيره.. نفسنا يترمم والناس تعرف تاريخ الست ساكنة».
رغم أن الشيب غزا لحيته، فإنه ظل محتفظاً بابتسامته التى ملأت وجهه ليكون حمدى إبراهيم شاهداً على تاريخ منزل «الست ساكنة»، فهو من مواليد حى الخليفة، الواقع به منزل مطربة الخديو، الذى كثيراً ما اتخذه ساحة للعب مع أقرانه من أبناء الحى: «قضينا هنا طفولتنا.. كنا بنلعب فى الساحة».
ومن طفل صغير يلهو فى ساحة المنزل إلى بائع خبز أمامه، هكذا تبدل الحال بالرجل الستينى «حمدى»، لتبقى حكاياته عن المنزل، الذى وصفه بالأثرى، ثابتة فى ذاكرته، متحدثاً عما أصابه وقت زلزال 1992: «كانت فيه ناس عايشة فيه لغاية وقت الزلزال، وقتها مشيوا والبيت بقى مهجور».
رغم ما آل إليه المنزل المهجور، يبقى تاريخ «الست ساكنة» مميزاً بمكانتها ولقبها الذى تفرّدت به عن سائر النساء، إذ روت أميرة الشاعر، باحثة فى تراث الموسيقى العربية، لـ«الوطن»، عن سيرة مطربة الخديو إسماعيل، التى وُلدت فى محافظة الإسكندرية وتميزت بصوتها القوى فى الغناء وقراءة القرآن الكريم، وأتت إلى القاهرة لتغنى فى أكشاك الأزبكية، حتى قابلت «الست نعيمة» المعروفة بـ«ضامنة المغانى» أى السيدة المعنية بانتقاء الفتيات ذات الصوت الجيد للغناء فى القصور الملكية.
وبحسب ما ذكرته «أميرة» عن علاقة الصداقة القوية بين «ساكنة» و«نعيمة»، فإن هذا ما ساعدها فى الغناء داخل القصور الملكية، بداية من عهد الوالى عباس الأول، وأصبحت أول مطربة فى العصر الحديث تتمتع بالصوت القوى، حتى عصر الخديو إسماعيل، الذى أُغرم بصوتها ومنحها لقب البكوية، وهى أول وآخر امرأة تحصل على هذا اللقب.
كثرت الأقاويل حول سبب منحها هذا اللقب، وأوضحت «أميرة» أن من الحكايات الشائعة أنه فى ذات ليلة دعا الخديو إسماعيل مطربته المفضلة للغناء فى إحدى الحفلات، لتشتعل الغيرة بين نساء القصر، ويقرر الخديو إهداءها هذا اللقب نكاية فيهن، واقترن لقب البكوية باسم الست ساكنة، بينما عُرفت بين العامة بـ«ساكنة باشا».
أما عن قصة إهدائها المنزل فى حى الخليفة، فقالت «أميرة» إن المنزل الواقع فى حى الخليفة تم بناؤه عام 1846 فى عهد الوالى محمد على، وأهداه الخديو إسماعيل لمطربته المفضلة «ساكنة بك» تقديراً لموهبتها، وللذهاب إليها للاستماع إلى صوتها بعيداً عن نساء القصر.
ووصفت «أميرة» المنزل قائلة إنه مبنى على مساحة 880 متراً، يتكون من طابقين، ويضم 20 حجرة ومبنى للخدم وإسطبلاً للخيل، وتميز الطابق العلوى بوجود قاعة الحرملك، وأخرى كبرى بأرضية من الرخام، وتزينت الأسقف بماء الذهب والزخارف، وكان معروفاً بـ«بيت الغناء والطرب» حين سكنته الست ساكنة، إذ أقيمت بداخله مجالس الأدب والغناء وأيضاً قراءة القرآن الكريم.
أما عن مصير المنزل حالياً، فذكرت «أميرة» أنه مدرج فى قائمة مجلد التراث، لكنه غير مدرج كمبنى أثرى رغم مرور أكثر من مائة عام على إنشائه، كما أنه يعانى من حالة سيئة للغاية، ويحتاج للتدخل العاجل لإنقاذه.