إذا قُدِّر لك أن تلتقى بأجيال لم تنهِ تعليمها الجامعى بعد وقد تلقَّت هذا التعليم فى مؤسسات تعليمية أجنبية، فلا شك أنك سوف تجد أن ركائز الوطنية لديها تتلخص فى الارتباط بالأرض التى يعيشون عليها فقط، ولم يأتِ هذا الأثر من البرامج التعليمية التى حصلوا عليها فى تلك المؤسسات، بل جاء بشكل كبير كجزء مهم من تأثير الأسرة على تلك الأجيال، فالمحتوى العلمى والثقافى الذى تلقَّته تلك الأجيال طوال سنوات عمرها لا نجد فيه ما يدعم الهوية بشكل واضح ومهم كأحد المجالات التى يجب أن تتسلح بها كما تتسلح بالتخصص فى علم من العلوم وإجادة أدوات العصر الذى نعيش فيه.
ولعلنا نلاحظ أيضاً أن هذه الحالة نجدها فى أيضاً فى أجيالنا التى تلقَّت تعليماً فى مدارس وطنية اقتصرت برامجها التعليمية على العلوم التطبيقية التى تتخفف من المعرفة المرتبطة بالهوية الوطنية وغرسها فى نفوس أبنائنا فى صغرهم، وبدا أن مصمِّمى البرامج التعليمية كانوا من خريجى تلك البرامج، سواء التى قدمتها المؤسسات الأجنبية أو تلك البرامج التعليمية الوطنية المبنية على العلوم التطبيقية.
ولم يدرك رجال التعليم فى أُمتنا أنهم -سواء بقصد أو بدون قصد- قد سلموا كثيراً من أبنائنا إلى كل مَن له أطماع فى ذلك الوطن، وعلى رأسهم جماعات التطرف والإرهاب التى لعبت فى عقول أجيال عديدة مستغلة ضعف ما قدمناه لهم فيما يتعلق بالهوية والوطن وقلة ذخيرتهم المعرفية فى قضايا بدهية تتعلق بالمجتمع وتطوره والوطن وكفاحه وإرثه التاريخى والحضارى ودوره فى محيطه الإقليمى والعالمى، وعلى مدى عقود بدأت عمليات تذويب الهوية وإعادة تركيب ماهيتها فى عقول أبنائنا، ونجنى نحن ثمارها الآن.
إننا أمام حالة خطيرة من السير ولو ببطء فى طريق تذويب الهوية وعدم التمسك بها، وهو ما يعنى ولو بعد حين أن أجيالنا الشابة سوف تكون أكثر ضعفاً وهشاشة أمام الأفكار التى تصدر من قوى مختلفة المشارب وأكثر حراكاً لتحقيق مصالحها على حساب وطننا ومصالحه.
والحديث عن الهوية ليس من قبيل التنظير السفسطائى، فحتى القوى الكبرى حالياً تحافظ على هويتها بشكل قوى وبنَّاء، وهى الشغل الشاغل لقادة تلك القوى، ولننظر إلى الشعارات التى يطلقها قادة تلك القوى فى حملاتهم الانتخابية والبرامج التى يقدمونها لشعوبهم ليحصلوا على تأييدهم، بل ويمارسون ذلك على أرض الواقع فى حماية مصالح شعوبهم -أفراداً وجماعات وشركات ومؤسسات- طالما أنهم ينتمون لهوية أمتهم، وهو ما يقوى الهوية فى نفوس مواطنيهم وارتباطهم بوطنهم وبإرثه وتاريخه وكفاحه عبر العصور والأزمان.
وقد يرى البعض أن التأثير على هوية الأجيال القادمة سوف يظل محدوداً فى ظل الدور الذى يلعبه المجتمع فى جميع المناحى التى تتفاعل معها الأجيال داخل الوطن، إلا أن تلك النشاطات التى تعتبر جزءاً من حركة تلك الأجيال قد تغيَّرت عن الماضى بوجود الثورة الرهيبة والكبيرة فى مجال التواصل الاجتماعى وتلقى المعلومات من جهات عديدة، كثير منها غير معلوم أهدافه، والعديد منها يعمل لتحقيق مصالح قوى وجماعات مختلفة التوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية.
ومكمن خطورة التعامل مع تلك المصادر الجديدة للحصول على المعرفة أن الأجيال الجديدة بحكم مراحلها العمرية والتى يغلب عليها الحيوية والاندفاع قد تكون غير قادرة على التعامل بحكمة وروية ونقد لما يقدم مما يجعلها عرضة للانجراف فى تيارات معرفية وسلوكية قد تبعد بهم عن الهوية والانتماء للأمة، بل ويكونون عوامل هدم تستخدم ضدها.
ولا يعنى ذلك أن شباب هذا الوطن غير قادر على الثبات أمام تيارات تذويب الهوية الوطنية، فهذا غير صحيح، فكثير منهم ثابت على قيم ومبادئ هويته الوطنية، إلا أنه بدا واضحاً وبشكل لافت فى السنوات القريبة الماضية وأيامنا الحالية أن ما تلقاه بعضهم من معارف فى مراحل عمرهم المختلفة لم يكن منها ما يعمل على تعظيم الهوية الوطنية فى وجدانهم وعقولهم، ويكفى أن نتصفح التعليقات على أية حالة ينشرها البعض على صفحات التواصل الاجتماعى عن قضايا تمس الوطن، لندرك إحصائياً مدى ما جرى بعقول بعض أبنائنا، ولعل ما جرى عند الاحتفال بالذكرى 47 لانتصار أكتوبر العظيم خير مثال فيما جرى فى العقل المصرى، فرغم أن الكثير من شبابنا قد ردَّ الصاع صاعين لتبجح قادة إسرائيل، فإننا وجدنا بعض أبناء جلدتنا يساورهم الشك فى الانتصار سواء عن قصد وغرض أو عن جهل وقلة معرفة.
إن خطورة الأمر تستدعى من الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى يبذل جهداً كبيراً فى إيقاظ الوعى بقضايا الوطن أن يضع يده واهتمامه بكل قوة فى هذا الملف، فلا شك أننا نريد المزيد من الاهتمام بالمحتوى الذى يتعلق بالهوية الذى يتعلمه أبناؤنا داخل وطننا، سواء فى مؤسسات وطنية أو أجنبية، وأن مقرراً يتناول كفاح هذه الأمة عبر تاريخها وإرثها الحضارى يجب أن يكون إلزامياً على جميع المراحل التعليمية، وبخاصة الجامعية، وأن النشاطات اللاصفية لا بد أن تراعى قيم الهوية فى تصميماتها، وأن وزارات الثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالى والشباب والرياضة والإعلام والأوقاف والكنيسة وغيرها مما يتصل بتكوين أجيالنا عليها أن تبذل جهوداً كبيرة لتقديم محتوى يليق بالوطن وتعظيم الهوية فى وجدان شبابه، ليزداد وعيه بالمخاطر المحيطة بأمته، والتى لن تنقطع ما بقيت هذه الأمة.
كان الله فى عون الرئيس، وحفظ الله الوطن من كل مكروه وسوء.