عصام زكريا يكتب لـ"الوطن": "الأيرلندى".. يتحدى "سوبرمان" فى افتتاح القاهرة!

كتب: عصام زكريا

عصام زكريا يكتب لـ"الوطن": "الأيرلندى".. يتحدى "سوبرمان" فى افتتاح القاهرة!

عصام زكريا يكتب لـ"الوطن": "الأيرلندى".. يتحدى "سوبرمان" فى افتتاح القاهرة!

منذ عدة أسابيع ثار عدد من صبية الفيس بوك ومواقع التواصل الاجتماعى على المخرج مارتن سكورسيزى لأنه انتقد أفلام الأبطال الخارقين التى تنتجها شركة «مارفل» ووصفها بأنها لا تنتمى لفن السينما.

بالطبع ليس هناك تعريف واحد للسينما أو أى فن، وهناك وجهات نظر متعارضة كثيرة، ولكن حين ننظر للسينما من خلال عيون سكورسيزى، وهى عيون مخرج وصاحب رؤية ومؤرخ وعاشق للسينما لا مثيل له، فلا بد أن لرأيه أسباباً وجيهة، أما إذا نظرنا لأفلام مارفل من خلال فيلم سكورسيزى الأخير، «الأيرلندى»، فسوف نرى أنه أيضاً على حق!

لقد أحسن مهرجان القاهرة صنعاً باختيار فيلم «الأيرلندى» للعرض فى افتتاح دورته الواحدة والأربعين، التى بدأت مساء الأربعاء، أمس الأول، وذلك بالرغم من طول زمن الفيلم الذى يصل إلى 209 دقائق، أى ثلاث ساعات ونصف الساعة إلا دقيقة!

رغم طول الفيلم، وافتقاده للمقومات «المارفلية» من معارك ومؤثرات وإيقاع لاهث، ورغم بطئه واعتماده على الحوارات الطويلة، وعلى ممثلين معظمهم تجاوز السبعين، فقد جلس عدد لا بأس به من حضور حفل افتتاح المهرجان داخل القاعة لمشاهدة الفيلم، وبقى معظمهم حتى نهايته فى الثانية من صباح اليوم التالى.

«الأيرلندى» هو أحدث أعمال المخرج الكبير مارتن سكورسيزى، وهو كبير حقاً، لا لقباً من تلك الألقاب التى باتت توزع على الكبير والصغير بدون حساب.

سكورسيزى الذى يقترب من الثمانين عمراً (من مواليد 1942) لم يقدم خلال مسيرته التى تزيد على نصف قرن سوى عشرين فيلماً، معظمها علامات فى تاريخ السينما، منها «سائق التاكسى»، «الثور الهائج»، «الإغواء الأخير للمسيح»، «رفاق طيبون»، «عصابات نيويورك»، «الراحلون»، على سبيل التذكرة، لا الحصر.

«الأيرلندى» سينضم بالتأكيد إلى قائمة أفضل أعمال سكورسيزى، ومن المتوقع أن ينافس بقوة على جوائز الأوسكار القادمة. وهو واحد من أهم أعماله، ولكن أهميته لا تنبع فقط من جودته الفنية، خاصة فيما يتعلق بالسيناريو المحكم والمشوق الذى كتبه ستيفن زيليان، والأداء التمثيلى الراقى من الثلاثى روبرت دى نيرو وآل باتشينو وجو بيشى، ولكن أيضاً من مضمونه الجرىء.. الصادم.

فى «الأيرلندى»، كما فعل فى «عصابات نيويورك»، الذى يحكى عن جذور العنف والجريمة المنظمة فى الولايات المتحدة، وكما فعل فى «لون المال» و«ذئب وول ستريت» اللذين يكشفان فساد المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية، وكما فعل فى «الراحلون» الذى يكشف فساد المؤسسات الأمنية، هنا يجمع سكورسيزى كل هذا ليروى وجهاً دموياً وقبيحاً من تاريخ أمريكا الحديث، من الخمسينات إلى نهاية القرن الماضى، وذلك من خلال سيرة قاتل محترف تصادف أن عمل برفقة عدد من كبار رجال المافيا ورؤساء النقابات العمالية والسياسيين.

ومن خلال سيرة هذا القاتل المحترف «فرانك شيران» الذى تعلّم القتل عندما كان جندياً خلال الحرب العالمية الثانية، يؤمر فيطيع حتى لو كان بقتل الجنود الألمان العزل (وهى المرة الأولى على حد علمى التى يشير فيها فيلم أمريكى إلى أن الأمريكيين أيضاً كانوا يرتكبون «جرائم حرب» وليس الألمان فقط).. من خلال سيرة شيرنان الذى كان يعمل سائق شاحنات، قبل أن ينضم إلى عصابات الجريمة المنظمة الإيطالية، ثم يصبح المساعد الأول لرئيس اتحاد عمال النقل جيمى هوفا، والذى كان لسنوات طويلة أقوى شخصية فى الولايات المتحدة بعد الرئيس، وهى الشخصية التى قدمها من قبل جاك نيكلسون فى فيلم بعنوان «هوفا» عام 1992، بينما يؤديها هنا آل باتشينو.

الفيلم يفضح علاقة رؤساء أمريكا بالمافيا ويكشف سر اغتيال كينيدى 

يكشف الفيلم عن العلاقات الفاسدة التى ربطت هوفا بزعماء الجريمة المنظمة، والتى ربطت هؤلاء برؤساء أمريكا، حيث قام زعماء المافيا بتمويل حملة جون كينيدى ودعمه مقابل وعد بالقضاء على الزعيم الكوبى فيدل كاسترو، حتى يمكنهم استعادة أعمالهم وأرباحهم فى كوبا. وهذا الوعد كان وراء محاولة اغتيال كاسترو فى واقعة «خليج الخنازير» والحرب النووية التى كادت تقع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى خلال الستينات، ويشير الفيلم ضمناً إلى أن علاقة كينيدى بالمافيا ربما تكون سبب اغتياله.. كذلك يكشف الفيلم عن قيام هوفا على الطرف الآخر بدعم نيكسون وتمويله نكاية فى آل كينيدى الذين يكرههم.. مما يشعل الحرب بينهما.

من المعروف أيضاً أن هوفا اختفى عام 1975 ولم يُعثر على جثته، وهناك عدة روايات للغز، ولكن «الأيرلندى» يطرح حكاية مختلفة تقول إن القاتل هو أقرب أصدقائه ومساعديه، شيران، الذى يروى الفيلم سيرته.

يلعب دى نيرو شخصية فرانك شيران ببراعته المعتادة، ويقدم مع آل باتشينو «دويتو» يليق باسميهما وتاريخهما، ولو أن «الأيرلندى» لم يفعل سوى جمع هذا الثنائى مرة أخرى لكفاه، أما جو بيشى الذى يؤدى شخصية رجل المافيا فهو يقدم أداء استثنائياً يؤكد موهبته ومكانته كواحد من أعظم الممثلين الذين لم يلقوا الحظ ولا التقدير اللذين يستحقونهما.

ليس فى «الأيرلندى» أبطال خارقون من تلك النوعية التى تروجها السينما الأمريكية التجارية، وأنا شخصياً من عشاق أفلام «مارفل»، ولكن السينما ليست شيئاً واحداً. هناك أفلام تعرض أحلامنا بعالم مثالى وأبطال نبلاء أقوياء، وهناك أفلام تعرض لنا الواقع المرير البائس، حيث يسود الشر والفساد والقبح، لكنها تمتلك من الحلم ومن جمال السينما الكثير جداً، مثل «الأيرلندى».


مواضيع متعلقة