قصة «صورتين» داخل المعهد الأزهرى: ضحايا داخل «إطار»

قصة «صورتين» داخل المعهد الأزهرى: ضحايا داخل «إطار»
مع دقات الثامنة صباحاً، يبدأ الطابور داخل معهد نور الأزهر النموذجى، بجزء مما تيسر من سورة «يوسف»، لكن بصوت طالب آخر غير «محمد هاشم»، أسطورة تلاوة القرآن، كما يصفه أصدقاؤه، الذى رحل مع شقيقيه «هاشم وأحمد»، المعلق لثلاثتهم صورة مهداة من والدهم «أشرف هاشم» للمعهد.
أثناء خدمته كرقيب بمركز شرطة أسيوط، هاتفته زوجته لتخبره بوقوع حادث لأتوبيس الأطفال عند المزلقان، كل ما جال بخاطر «أشرف هاشم» أن الأمر لا يعدو مجرد صدام مع سيارة، غير أن الخبر نزل على رأسه كالصاعقة.. «قطار»! أجرى اتصالاً، يسأل بلهفة: «فيه حد مات؟» لتزداد الوطأة: «الوفيات كتير جداً.. ومحدش عاش غير قليل»، تمسك بالصبر، دخل المستشفى مهرولاً، يرتجف قلبه، يُهدئ نفسه بأنها مجرد إصابات، قبل أن يدخل المشرحة ليرى ظله يختفى من الأرض، الآمال تحطمت، أظلمت الدنيا فى نفَس واحد، النبت الذى رعاه واراه التراب.. صدمة، فصمت، فبكاء، فبلاء من ربكم عظيم، فصبر كالجبال.
يردد طيلة حديثه: «الحمد لله، إحنا أحسن من غيرنا». يشكر ربه فى كل صلاة أنه وجد جثامين أولاده سليمة إلا من رتوش وصدمات، يسكت برهة.. «بس أحمد كانت دماغه فيها جرح كبير وإيده مبتورة». يدخل فى نوبة بكاء، يخفض رأسه رغماً، يشد من عزمه الحضور، فتغلبه الدموع.
«محمد»، يحفظ 25 جزءاً، و«هاشم» يحفظ نصف القرآن، و«أحمد» خمسة فقط، هكذا يُعرّف «أشرف» أبناءه، ثم يعدد مزاياهم «أحمد» أطيبهم و«محمد» حكيم و«هاشم» حنين وآخر واحد شفته فيهم. قبل أسبوع من الحادث حضر ولده الأكبر فرحاً بإحضار المعهد مجموعة من الأسطوانات وجهاز تسجيل كى يسجل القرآن بصوته الرخيم، غير أن القدر لم يمهله.. «كنت عايش ليهم.. باشتغل فى الشرطة ويوم الإجازة باشتغل مبيض محارة». دوماً ما طلب الأب من ولده أن يتلو كتاب الله على طريقة الشيخ «المنشاوى» فما يبرح الطفل الصغير أن يضبط صوته، يتجشأ، ثم يسترسل فى التلاوة، ليتبعها هدية من رجل الشرطة. وكانت إحدى الهدايا كتاباً يحمل اسم «س و ج»، كان أول ما وقعت عليه عين الابن البكرى هو سؤال عن أول نبى تمنى الموت، وكانت الإجابة: «سيدنا يوسف»، لذا لم يكن «محمد» يرجو من الدنيا إلا أن يصير إماماً لمسجد يقرأ فى أولى صلواته الآية الكريمة: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّى فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ».
365 يوماً مرت على الحادث، بينما لا تحضر سيرة الواقعة فى رواق المعهد؛ خشية أن يتأذى الطلاب أو أن «تثار نفسيتهم» كما يشرح الأستاذ «محمد عبدالعزيز» عميد المعهد: «مش حابين نفتح الموضوع أو نعلق صور على الحيطان عشان نتخطى الأزمة»، يتحفظ الرجل على الكلام مع الإعلام، يشكو من «تلفيق» -حسب تعبيره- البعض لمواقف على غير الحقيقة، يؤكد أن المعهد «ليس استثمارياً وإنما خيرى»، يتبع القائمون عليه الطريقة الجعفرية الصوفية. المعهد الذى يضم 62 مدرساً كانت أول دفعة تخرجت فيه عام 2011.
لوحة أخرى هى ما يرتبط بالحدث، لسورة «الفاتحة» فى «حوش» المعهد، مترجمة بالإنجليزية من خلال الأستاذة «آيات جابر» إحدى شهيدات الواقعة، تشير إلى نبوغ خريجة كلية الألسن جامعة المنيا، يقترب منها الطلاب الصغار متذكرين عطفها وطيبتها، الجميع يتذكرها بالخير، تنظر والدتها صوب مكتبتها العلمية فتلمع عيناها بالفخر، صورة لتكريمها من إدارة الجامعة كطالبة مثالية، تحكى عن وصيتها الدائمة بصلة الرحم «ربنا بيختار أحبابه» وعن وصفها بـ«القائد» كما يحلو لوالدها أن يناديها، يربت «محمد جابر» الأخ الأصغر للراحلة على كتف والده ليهدئ من روعه، فيما يعدد الوالد خصال الشهيدة، من قيامها لليل ورقتها فى التعامل وإيثارها للغير.
التعلق الشديد بالمعهد من أهم سمات تلاميذه، فعلى الرغم من وقوع الحادث الأليم فإن أهالى الضحايا يثنون على القائمين على المعهد، فلا تزال أمل ذات الأعوام الستة تذهب للمكان دون شقيقها الراحل «مصطفى»، بينما فضل عمها «أحمد مصطفى» أن يرسل ابنته «حبيبة» إلى مدرسة قريبة بسبب إصابة شقيقها الأصغر «محمود» 6 سنوات، ببتر فى اليد اليمنى، لكنه ينفى تشاؤمه من المكان، اللهم إلا وجود «حبيبة» برفقة شقيقها المصاب فى مدرسة واحدة.. الأبناء الثلاثة «حبيبة ومحمود وأمل» أبناء عمومة، لا يفرق الناس أيهما شقيق الآخر.
اخبار متعلقة
«الوطن» مع أسر شهداء قطار أسيوط فى الذكرى الأولى للكارثة
أهالى الشهداء يروون «حدوتة الصبر» على فقدان «الضنا»
عامل المزلقان المتهم: نار السجن ولا نظرة من «أبوالشهيد»
«الوطن» ترافق الطلبة: رحل الأتوبيس وبقيت أرقامه
موقع الكارثة: المزلقان على إهماله.. وحجر أساس لمعهد لن يرى النور
هنا.. «مقبرة السكة الحديد الجماعية»