«مائدة العمود».. «عم جميل» قبطى يصوم رمضان ويُعد إفطاراً للصائمين: «الله محبة»

كتب: محمد أبوضيف

«مائدة العمود».. «عم جميل» قبطى يصوم رمضان ويُعد إفطاراً للصائمين: «الله محبة»

«مائدة العمود».. «عم جميل» قبطى يصوم رمضان ويُعد إفطاراً للصائمين: «الله محبة»

بين جنوده وقف الضابط «جميل بنايوتى» يتابعهم، كلهم صائمون، كان الأمر شاقاً عليهم، الشمس فى كبد السماء، رمال الصحراء تزداد سخونة، قابضين على أسلحتهم، وكأنها جمر يزداد اشتعالاً، فى انتظار أمر الهجوم، ولكن الضابط القبطى رغم تلك المشقة قرر أن ينضم لصفوف عساكره الصائمين ليشاركهم ظمأهم طيلة الشهر الكريم خلال حرب أكتوبر عام 1973.

مرت 45 عاماً، وما زال العم جميل على العهد صائماً، ولكن قبل ذلك أصبح مُطعِما للصائمين، يعد لهم طوال شهر رمضان وجبات يومية، فى مائدة إفطار الوحدة الوطنية، التى أسسها فى منزله بشبرا مصر، مشاركاً جاره المسلم، والمشهورة بـ«مائدة العمود».

بشعره الفضى، ووجهه الدائرى الصبوح، عم جميل الرجل الصعيدى، كان يعمل فى جامعة عين شمس، قبل أن يخرج على المعاش، وذلك بعد مشاركته فى حرب تحرير الأرض فى أكتوبر عام 1973، حيث كان ضمن سلاح الإشارة داخل لواء بسلاح المدرعات.

{long_qoute_1}

 

يتحرك «عم جميل» متكئاً على عكازه الخشبى، يتابع العاملين فى المائدة، يغضب أحيانا، يثور أحيانا أخرى، تلك المائدة ينقصها سلطات، الأرز اليوم لم يكن على ما يرام، يعنف الطباخ، يتابع كل الضيوف، وما وصلهم من طعام، يطمئن أنه يكفيهم، ويسأل بعضهم: «تحبوا تاكلوا إيه بكرة؟».

مائدة إفطار عم جميل بشارع «أبورافع» المتفرع من شارع «يلبغا» بشبرا يمتد عمرها لـ36 عاماً، بدأها مجموعة من تجار المنطقة، أسسوا تلك المائدة، ولكن بعد عام انصرف عنها أهلها، ولم يتبقّ سوى واحد فقط منهم، وحين علم ذلك «بنايوتى» قرر أن يشارك جاره المسلم تلك المائدة، بل خصص لها دكاناً أسفل منزله ليكون مقراً لإعداد الطعام وتوزيعه، وبدأ بثلاث طاولات والطعام يعد فى المنازل على أيدى السيدات ويقدم للصائمين أسفله.

ولكن الآن، وأمام الدكان، نصب جميل سرادقاً، وببعض التبرعات التى اشترك فيها مسلمو الحى وأقباطه صنعوا طاولات وإنارة: «الراجل اللى بيعمل إنارة المائدة مسيحى، بقاله 36 سنة بيتبرع كل سنة ييجى يعملها ويظبطها ويمشى، وييجى آخر الشهر يلمها ويشيلها للسنة الجاية»، يقول «عم جميل»، بل يستقبل من جيرانه الأقباط يومياً أطعمة وحلوى مهداة للمائدة.

أولاد عم جميل يعيشون فى أمريكا، ولكن قلوبهم معلقة بالمائدة، كل عام يتواصلون معه ليعرفوا منه احتياجات المائدة ليشاركوا فيها: «هم اتربوا داخل المائدة وهم صغيرين قبل ما يسافروا كانوا بيشاركوا فى إعدادها».

تختلف مائدة عم جميل عن أى مائدة أخرى، حيث اكتشف بعد عشرين عاماً أن الناس بدأوا فى الانصراف عن المائدة، فسر ذلك وقتها بأن البعض يساوره الخجل من الإفطار على مائدة فى الشارع، وبعضهم لا يستطيع اصطحاب زوجته وأولاده للمائدة، ففكر فى حل يحفظ للجميع كرامته، وقرر أن يشترى عدداً من أوانى حفظ الطعام المصنوعة من الألومنيوم، والمعروفة باسم «عمود الأكل»، ثم يوزعها على الجيران قبيل شهر رمضان، وعندما يهل الشهر، يطبخ «جميل» الطعام فى دكانه، ويستقبل الجيران الذين يتوافدون عليه وبصحبتهم العمود ليملأوه بالطعام، وينصرفوا للإفطار مع عائلاتهم، لتصبح مائدة عم جميل داخل كل منزل بشبرا. «100 عمود وأكثر»، يقول «على رمضان»، الطباخ، تخرج من بين يديه كل يوم، ويبدأ توافد الأهل والجيران على المائدة من الساعة الرابعة عصراً، وبين أيديهم أعمدة الطعام، تلك الطريقة فى توزيع الطعام وفرت حسب عم «رمضان» الكثير من الطعام المهدر، حيث فى أى مائدة أخرى بمجرد أن ينتهى الصائمون من الإفطار، يلقون ببواقى الطعام فى القمامة، ولكن حين يكون الإفطار فى المنازل إذا تبقى من العائلة أى طعام يحتفظون به لوجبة أخرى، ويحدد الصائم عدد عائلته أياً كان: «فيه بعض العائلات بتتكون من 10 و11 فرد».

داخل مطبخ إعداد الطعام، وجبينه يتصبب عرقاً، يقول «رمضان»، الذى يعمل معهم متطوعاً منذ 15 عاماً، إنه يتبرع بالمشاركة فى المائدة طيلة الشهر الكريم كل عام، ويرفض أى عمل آخر بجانبها، رغم ما يعرض عليه من أموال للعزائم والولائم، لكنه يجد فى المشاركة بالمائدة خيراً لا يضاهيه أموال، ليشارك عم جميل إعداد الطعام للصائمين كل عام.

تقترب ساعة الإفطار، يبدأ الصائمون فى التوافد على المائدة، يزداد توتر عم جميل، ويصيح فى العاملين لإتمام المائدة على أكمل وجه: «ارتباطى بالمائدة من عمر أولادى، هى زى ابنى الصغير اللى كل يوم بيكبر»، ويعتبرها كانت معسكراً لإعداد أولاده وأولاد الحى على التسامح: «دى زى معسكر إعداد القادة»، فكل أطفال الحى تربوا داخلها على أنه لا فرق بين مسلم ومسيحى والكل سواسية والجميع يساعد ويشارك فى الفرح والأحزان: «مبنية على المحبة والتسامح.. الله محبة»، ويستطرد: «المائدة مش جميل لوحده، إحنا قاعدة كبيرة».

ورغم ما يمر عليه من صعوبات بسبب ضعف التبرعات وغلاء الأسعار، فإن المائدة لم تتوقف عاماً واحداً: «بنلاقى ناس ولاد حلال لما بيعرفوا إن الرز أو الخضار للمائدة بينزلوا فى سعرها عشان دى حاجة لربنا»، ولكن الأزمة الأكبر تتمثل فى تلف بعض المعدات والأجهزة كالثلاجات وعدم استطاعة القائمين على المائدة تعويضها.

بملابسه الملطخة ببقايا الأطعمة، وشعره الأبيض، يجلس سعيد صابر ليستريح بعد الإفطار، ليدخن الشيشة، موظف بالكهرباء عمره 60 عاماً، تاريخ مشاركته من عمر المائدة، طيلة 36 عاماً لم يفطر يوماً وسط عائلته، فقبل الشهر الكريم بأسبوع يغادر منزله، ليعيش داخل الدكان، يعد العدة، ويجهز السرادق، ويظل يعمل داخلها طيلة الشهر بالكامل.

«صابر»، الذى يبدأ عمله فى المائدة من العاشرة صباحاً وحتى بعد الإفطار بساعتين، يقول إن عم جميل وجاره المسلم، الذى يتحفظ الجميع على اسمه لرفضه الظهور، منذ أن بدأوا المائدة قبل عشرات السنوات وجميع العاملين، يعتبرون المائدة منزلهم ومأواهم فى رمضان، ولا يستطيع الرجل حصر عدد المشاركين فى التبرع للمائدة، سواء من المسلمين أو المسيحيين: «خير لله.. مفيش هنا فرق بين مسلم ومسيحى وده اللى بيميزها عن أى مائدة تانية».


مواضيع متعلقة